فصل: البحث التاسع عشر: (حكم المجتهد إذا خالف أهل الإجماع في عصره)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ***


المقصد الثالث‏:‏ الإجماع

وفيه أبحاث‏:‏

البحث الأول‏:‏ في مسماه لغة واصطلاحا

قال في المحصول الإجماع يقال بالاشتراك على معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ العزم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فأجمعوا أمركم‏}‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل»‏.‏

وثانيهما‏:‏ الاتفاق يقال أجمع القوم على كذا أي صاروا ذوي جمع كما يقال ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وذا تمر انتهى واعترض على هذا بأن إجماع الأمة يتعدى بعلى والإجماع بمعنى العزيمة لا يتعدى بعلى وأجيب عنه بما حكاه ابن فارس في المقاييس فإنه قال يقال أجمعت على الأمر إجماعا وأجمعته وقد جزم بكونه مشتركا بين المعنيين أيضا الغزالي‏.‏

وقال القاضي‏:‏ العزم يرجع إلى الاتفاق لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه وقال ابن برهان وابن السمعاني الأول أي العزم أشبه باللغة والثاني أي الاتفاق أشبه بالشرع ويجاب عنه بأن الثاني وإن كان أشبه بالشرع فذلك لا ينافي كونه معنى لغويا وكون اللفظ مشتركا بينه وبين العزم‏.‏

قال أبو علي الفارسي‏:‏ يقال أجمع القوم إذا صاروا ذوي جمع كما يقال ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر وأما في الاصطلاح فهو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر من الأعصار على أمر من الأمور والمراد بالاتفاق الاشتراك إما في الاعتقاد أو في القول أو في الفعل ويخرج بقوله مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم اتفاق العوام فإنه لا عبرة بوفاقهم ولا بخلافهم ويخرج منه أيضا اتفاق بعض المجتهدين وبالإضافة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم خرج اتفاق الأمم السابقة ويخرج بقوله بعد وفاته الإجماع في عصره صلى الله عليه وسلم فإن لا اعتبار به ويخرج بقوله في عصر من الأعصار ما يتوهم من أن المراد بالمجتهدين جميع مجتهدي الأمة في جميع الأعصار إلى يوم القيامة فإن هذا توهم باطل لأنه يؤدي إلى عدم ثبوت الإجماع إذا لا إجماع يوم القيامة وبعد يوم القيامة لا حاجة للإجماع والمراد بالعصر عصر من كان من أهل الاجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة فلا يعتد بمن صار مجتهدا بعد حدوثها وإن كان المجتهدون فيها أحياء وقوله على أمر من الأمور يتناول الشرعيات والعقليات والعرفيات واللغويات‏.‏

ومن اشترط في حجية الإجماع انقراض عصر المجتهدين المتفقين على ذلك الأمر زاد في الحد قيد الانقراض ومن اشترط عدم سبق خلاف مستقر زاد في الحد قيد عدم كونه مسبوقا بخلاف ومن اشترط عدالة المتفقين أو بلوغهم عدد التواتر زاد في الحد ما يفيد ذلك‏.‏

البحث الثاني‏:‏ في إمكان الإجماع في نفسه

فقال قوم منهم النظام وبعض الشيعة بإحالة إمكان الإجماع قالوا إن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلوما بالضرورة محال كما أن اتفاقهم في الساعة الواحدة على المأكول الواحد والتكلم بالكلمة الواحدة محال وأجيب بأن الاتفاق إنما يمتنع فيما يستوي فيه الاحتمال كالمأكول المعين والكلمة المعينة أما عند الرجحان بقيام الدلالة أو الأمارة الظاهرة فذلك غير ممتنع وذلك كاتفاق الجمع العظيم على نبوة نبينا محمد قالوا ثانيا أن اتفاقهم فرع تساويهم في نقل الحكم إليهم وانتشارهم في الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم وأجيب بمنع كون الانتشار يمنع ذلك من جدهم في الطلب وبحثهم عن الأدلة وإنما يمتنع ذلك على من قعد في قعر بيته لا يبحث ولا يطلب قالوا ثالثا الاتفاق إما عن قاطع أو ظني وكلاما باطل أما القاطع فلأن العادة تحيل عدم نقله فلو كان لنقل فلما لم ينقل علم أنه لم يوجد كيف ولو نقل لأغنى عن الإجماع وأما الظني فلأنه يمتنع الاتفاق عادة لاختلاف الأفهام وتباين الأنظار وأجيب بمنع ما ذكر في القاطع إذ قد يستغني عن نقله بحصول الإجماع الذي هو أقوى منه وأما الظني فقد يكون جليا لا تختلف فيه الأفهام ولا تتباين فيه الأنظار فهذا أعني منع إمكان الإجماع في نفسه هو المقام الأول‏.‏

المقام الثاني‏:‏ على تقدير تسليم إمكانه في نفسه منع إمكان العلم به فقالوا لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانيا أما الوجداني فكما يجد أحدنا من نفسه من جوعه وعطشه ولذته وألمه ولا شك أن العلم باتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس من هذا الباب وأما الذي لا يكون وجدانيا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفة لا مجال للعقل فيها إذ كون الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم يقل به ليس من حكم العقل بالاتفاق ولا مجال أيضا للحس فيها لأن الإحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته فإذا العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد منهم وذلك متعذر قطعا ومن ذلك الذي يعرف جميع المجتهدين من الأمة في الشرق والغرب وسائر البلاد الإسلامية فإن العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الأمكنة التي يسكنها أهل العلم فضلا عن اختيار أحوالهم ومعرفة من هو من أهل الإجماع منهم ومن لم يكن من أهله ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد بحيث لا يخفى على الناقل فرد من أفرادهم فإن ذلك قد يخفى على الباحث في المدينة الواحدة فضلا عن الإقليم الواحد فضلا عن جميع الأقاليم التي فيها أهل الإسلام ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب والعكس فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذهبه وبما يقوله في تلك المسألة بعينها وأيضا قد يحمل بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف على نفسه كما أن ذلك معلوم في كل طائفة من طوائف أهل الإسلام فإنهم قد يعتقدون شيئا إذا خالفهم فيه مخالف خشي على نفسه من مضرتهم وعلى تقدير إمكان معرفة ما عند كل واحد من أهل بلد وإجماعهم على أمر فيمكن أن يرجعوا عنه أو يرجع بعضهم قبل أن يجمع أهل بلدة أخرى بل لو فرضنا حتما اجتماع العالم بأسرهم في موضع واحد ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة قائلين قد اتفقنا على الحكم الفلاني فإن هذا مع امتناعه لا يفيد العلم بالإجماع لاحتمال أن يكون بعضهم مخالفا فيه وسكت تقية وخوفا على نفسه وأما ما قيل من أنا نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن أراد الاتفاق باطنا وظاهرا مما لا سبيل إليه ألبتة والعلم بامتناعه ضروري وإن أراد ظاهرا فقط استنادا إلى الشهرة والاستفاضة فليس هذا هو المعتبر في الإجماع بل المعتبر فيه العلم بما يعتقده كل واحد من المجتهدين في تلك المسألة بعد معرفة أنه لا حاصل له على الموافقة وأنه يدين الله بذلك ظاهرا وباطنا ولا يمكنه معرفة ذلك منه إلا بعد معرفته بعينه ومن ادعى أنه يتمكن الناقل للإجماع من معرفة كل من يعتبر فيه من علماء الدنيا فقد أسرف في الدعوى وجازف في القول لما قدمنا من تعذر ذلك تعذرا ظاهرا واضحا‏.‏

ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال‏:‏ ‏(‏من ادعى وجوب الإجماع فهو كاذب‏)‏‏.‏

والعجب من اشتداد نكير القاضي أبي بكر على من أنكر تصور وقوع الإجماع عادة فإن إنكاره على المنكر هو المنكر وفصل الجويني بين كليات الدين فلا يمتنع الإجماع عليها وبين المسائل المظنونة قلا يتصور الإجماع عليها عادة ولا وجه لهذا التفصيل فإن النزاع إنما هو في المسائل التي دليلها الإجماع وكليات الدين معلومة بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة وجعل الأصفهاني الخلاف في غير إجماع الصحابة وقال الحق تعذر الاطلاع على الإجماع لا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون وهم العلماء منهم في قلة وأما الآن وبعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء فلا مطمع للعمل به قال وهو اختيار أحمد مع قرب عهده من الصحابة وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور النقلية قال والمصنف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوبا في الكتب ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم أو بنقل أهل التواتر إلينا ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة وأما من بعدهم فلا انتهى‏.‏

المقام الثالث‏:‏ النظر في نقل الإجماع إلى من يحتج به قالوا لو سلمنا إمكان ثبوت الإجماع عند الإجماع عند الناقلين له لكان نقله إلى من يحتج به من بعدهم مستحيل لأن طريق نقله إما التواتر أو الآحاد والعادة تحيل النقل تواتر البعد أن يشاهد أهل التواتر كل واحد من المجتهدين شرقا وغربا ويسمعوا ذلك منهم ثم ينقلوه إلى عدد متواتر ممن بعدهم ثم كذلك في كل طبقة إلى أن يتصل به وأما الآحاد فغير معمول به في نقل الإجماع كما سيأتي وأجيب بأنه تشكيك في ضروري للقطع بإجماع أهل كل عصر على تقديم القاطع على المظنون ولا يخفاك ما في هذا الجواب من المصادرة على المطلوب وأيضا كون ذلك معلوما ليس من جهة نقل الإجماع عليه بل من جهة كون كل متشرع لا يقدم الدليل الظني على القطعي ولا يجوز منه ذلك لأن إيثار للحجة الضعيفة على الحجة القوية وكل عاقل لا يصدر منه ذلك‏.‏

المقام الرابع‏:‏ اختلف على تقدير تسليم إمكانه في نفسه وإمكان العلم به وإمكان نقله إلينا هل هو حجة شرعية فذهب الجمهور إلى كونه حجة وذهب النظام والإمامية وبعض الخوارج إلى أن ليس بحجة وإنما الحجة مستندة أن ظهر لنا وإن لم يظهر لم نقدر للإجماع دليلا تقوم به الحجة واختلف القائلون بالحجية هل الدليل على حجيته العقل والسمع أم السمع فقط فذهب أكثرهم إلى أن الدليل على ذلك إنما هو السمع فقط ومنعوا ثبوته من جهة العقل قالوا لأن العدد الكثير وإن بعد في العقل اجتماعهم على الكذب فلا يبعد اجتماعهم على الخطأ كاجتماع الكفار على جحد النبوة‏.‏

وقال جماعة منهم أيضا أنه لا يصح الاستدلال على ثبوت الإجماع بالإجماع كقولهم إنهم أجمعوا على تخطئة المخالف للإجماع لأن ذلك إثبات للشيء بنفسه وهو باطل فإن قالوا إن الإجماع دل على نص قاطع في تخطئة المخالف ففيه إثبات الإجماع بنص يتوقف على الإجماع وهو دور وأجيب بأن ثبوت هذه الصورة من الإجماع ودلالتها على وجود النص لا يتوقف على كون الإجماع حجة فلا دور ولا يخفاك ما في هذا الجواب من التعسف الظاهر‏.‏

ولا يصح أيضا الاستدلال عليه بالقياس لأنه مظنون ولا يحتج بالمظنون على القطعي فلم يبق إلا دليل النقل من الكتاب والسنة فمن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا‏}‏ ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه سبحانه جمع بين مشاقة الرسول وأتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن متابعة قول أو فتوى يخالف قولهم أو فتواهم وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة وأجيب بأنا لا نسلم أن المراد بسبيل المؤمنين في الآية هو إجماعهم لاحتمال أن يكون المراد سبيلهم في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في مناصرته أو في الاقتداء به أو فيما به صاروا مؤمنين وهو الإيمان به ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال قال في المحصول أن المشاقة عبارة عن الكفر بالرسول وتكذيبه وإذا كان كذلك لزم وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرسول وذلك باطل لأن العلم بصحة الإجماع متوقف على العلم بالنبوة ويجاب بأن العمل به حال عدم العلم بالنبوة يكون تكليفا بالجمع بين الضدين وهو محال ثم قال لا نسلم أنه إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما عند المشاقة كان اتباع سبيل المؤمنين واجبا عند المشاقة لأن بين القسمين ثالثا وهو عدم الاتباع أصلا سلمنا أنه يجب اتباع سبيل المؤمنين عند المشاقة ولكن لا نسلم أنه ممتنع قوله المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر بيانه أن المشاقة مشتقة من كون أحد الشخصين في شق والآخر في الشق الآخر وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغه سلمنا أن المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر فلم قلتم إن حصول الكفر ينافي العمل بالإجماع فإن الكفر بالرسول كما يكون بالجهل بكونه صادقا فقد يكون أيضا بأمور أخر كشد الزنار ولبس الغيار وإلقاء المصحف في القاذورات والاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم مع الاعتراف بكونه نبيا وإنكار نبوته باللسان مع العلم بكونه نبيا وشيء من هذه الأنواع كفر لا ينافي العلم بوجوب الإجماع ثم قال سلمنا أن الآية تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين لا بشرط مشاقة الرسول لكن بشرط تبين الهدى لأنه ذكر مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها تبين الهدى ثم عطف عليها اتباع غير سبيل المؤمنين فيجب أن يكون تبين الهدى شرطا في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى ومن جملة أنواع الهدى ذلك الدليل الذي لأجله ذهب أهل الإجماع إلى ذلك الحكم‏.‏

وعلى هذا التقدير لا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة أيضا فالإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه فهم منه تبين صدق قوله بشيء غير قوله فكذا هنا وجب أن يكون تبين صحة إجماعهم بشيء ورآه الإجماع وإذا كنا لا نتمسك بالإجماع إلا بعد دليل منفصل على صحة ما أجمعوا عليه لم يبق للتمسك بالإجماع فائدة سلمنا أنها تقتضي المنع عن متابعة غير سبيل المؤمنين ولكن هل المراد عن كل ما كان غير سبيل المؤمنين أو عن متابعة بعض ما كان كذلك الأول ممنوع وبتقدير التسليم فالاستدلال ساقط أما المنع فلأن لفظ الغير ولفظ السبيل كل واحد منهما لفظ مفرد فلا يفيد العموم وأما بتقدير التسليم فالاستدلال ساقط لأنه يصير معنى الآية أن من اتبع كل ما كان مغايرا لكل ما كان سبيل المؤمنين يستحق العقاب والثاني مسلم ونقول بموجبه فإن عندنا يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين وهو السبيل الذي صاروا به مؤمنين والذي يغايره هو الكفر بالله وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا التأويل متعين لوجهين‏:‏ لأنا إذا قلنا لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة غير سبيل الصالحين فيما صاروا به صالحين ولا يفهم منه المنع من متابعة سبيل غير الصالحين في كل شيء حتى الأكل والشرب‏.‏

والثاني‏:‏ أن الآية أنزلت في رجل ارتد وذلك يدل على أن الغرض منها المنع من الكفر والثاني أن الآية غير سبيلهم مطلقا لكن لفظ السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي وهو غير مراد هنا بالاتفاق فصار الظاهر متروكا ولابد من صرفه إلى المجاز وليس البعض أولى من البعض فتبقى الآية مجملة وأيضا فإنه لا يمكن جعله مجازا عن اتفاق الأمة على الحكم لأنه لا مناسبة ألبتة بين الطريق المسلوك وبين اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على شيء من الأحكام وشرط حسن التجوز حصول المناسبة سلمنا أنه يجوز جعله مجازا عن ذلك الاتفاق لكن يجوز أيضا جعله مجازا عن الدليل الذي لأجله اتفقوا على ذلك الحكم فإنهم إذا أجمعوا على الشيء فإما أن يكون الإجماع عن استدلال فقد حصل لهم سبيلان الفتوى والاستدلال عليه فلم كان حمل الآية على الفتوى أولى من حملها على الاستدلال بل هذا أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوكة توصل البدن إلى المطلوب هكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل موصلة للذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز وإذا كان كذلك كانت الآية تقتضي إيجاب أتباعها في سلوك الطريق الذي لأجله اتفقوا على الحكم ويرجع حاصله إيجاب الاستدلال بما استدلوا به على ذلك الحكم وحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة وأما إن كان إجماعهم لا عن استدلال فالقول لا عن استدلال خطأ فيلزم إجماعهم على الخطأ وذلك يقدح في صحة الإجماع ثم قال سلمنا دلالة الآية على وجوب المتابعة لكنها إما أن تدل على متابعة بعض المؤمنين أو كلهم الأول باطل لأن لفظ المؤمنين جمع فيفيد الاستغراق لأن إجماع البعض غير معتبر بالإجماع ولأن أقوال الفرق متناقضة والثاني مسلم ولكن كل المؤمنين الذين يوجدون إلى يوم القيامة فلا يكون الموجودون في العصر كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم إجماع كل المؤمنين فإن قلت المؤمنون هم المصدقون والموجودون وأما الذين لم يوجودا بعد فليسوا المؤمنين قلت إذا وجد أهل العصر الثاني لا يصح القول بأن أهل العصر الأول هم كل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل العصر الأول عند حضور أهل العصر الثاني قولا لكل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل العصر الأول حجة على أهل العصر الثاني سلمنا أن أهل العصر هم كل المؤمنين لكن الآية إنما نزلت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم فتكون الآية مختصة بمؤمني ذلك الوقت وهذا يقتضي أن يكون إجماعهم حجة لكن التمسك بالإجماع إنما ينفع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فمهما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية بقوا بأسرهم إلى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد لم تدل هذه الآية على صحة ذلك الإجماع ولكن ذلك غير معلوم في شيء من الاجتماعات الموجودة في المسائل بل المعلوم خلافه لأن كثيرا منهم مات زمان حياة النبي صلى الله عليه وسلم فسقط الاستدلال بهذه الآية ثم قال سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجة لكن دلالة قطعية أم ظنية الأول ممنوع والثاني مسلم لكن المسألة قطعية فلا يجوز التمسك فيها بالأدلة الظنية قال فإن قلت أنا نجعل هذه المسألة ظنية قلت إن أحدا من الأئمة لم يقل إن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني بل كلهم نفوا ذلك فإن منهم من نفى كونه دليلا أصلا ومنهم من جعله دليلا قاطعا فلو اقتناه دليلا ظنيا لكان هذا تخطئة لكل الأمة وذلك يقدح في الإجماع والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل ثم يقولون الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع ومخالفة كافر وفاسق فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل وذلك غفلة عظيمة سلمنا دلالة هذه الآية على أن الإجماع حجة لكنها معارضة بالكتاب والسنة والعقل أما الكتاب فكل ما فيه منع لكل الأمة من القول الباطل والفعل الباطل كقوله‏:‏ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ والنهي عن الشيء لا يجوز إلا إذا كان المنهى عنه متصورا وأما السنة فكثير منها قصة معاذ فإنه لم يجر فيها ذكر الإجماع ولو كان ذلك مدرجا شرعيا لما جاز الإخلال بذكره عند اشتداد الحاجة إليه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ومنها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي» ومنها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تعلموا الفرائض وعلموها فإنها أول ما ينسى» وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل» وهذه الأحاديث بأسرها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات وأما المعقول فمن وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن كل واحد من الأمة جاز الخطأ عليه فوجب جوازه على الكل كما أنه لما كان كل واحد من الزنج أسود كان الكل أسود‏.‏

الثاني‏:‏ أن ذلك الإجماع إما أن يكون لدلالة أو لأمارة فإن كان لدلالة فالواقعة التي أجمع عليها كل علماء العالم تكون واقعة عظيمة ومثل هذه الواقعة مما تتوفر الدواعي على نقل الدليل القاطع الذي لأجله أجمعوا وكان ينبغي اشتهار تلك الدلالة وحينئذ لا يبقى في التمسك بالإجماع فائدة وإن كان لأمارة فهو محال لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها فيستحيل اتفاق الخلق على مقتضاها ولأن في الأمة من لم يقل بقول الأمارة حجة فلا يمكن اتفاقهم لأجل الأمارة على الحكم وإن كان لا لدلالة ولا لأمارة كان ذلك خطأ بالإجماع فلو اتفقوا عليه لكانوا متفقين على الباطل وذلك قادح في الإجماع هذا كلام صاحب المحصول وقد أسقطنا منه ما فيه ضعف وما اشتمل على تعسف وفي الذي ذكرناه ما يحتمل المناقشة وقد أجاب عن هذا الذي ذكرناه عنه بجوابات متعسفة يستدعي ذكرها ذكر الجواب عليها منا فيطول البحث جدا ولكنك إذا عرفت ما قدمناه كما ينبغي علمت أن الآية لا تدل على مطلوب المستدلين بها ومن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ فأخبر سبحانه عن كون هذه الأمة وسطا والوسط من كل شيء خياره فيكون تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأمة فلو أقدموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة لا يقال الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة لأنا نقول يتعين تعديلهم فيما يجتمعون عليه وحينئذ تجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا هذا تقرير الاستدلال بهذه الآية وأجيب بأن عدالة الرجل عبارة عن قيامه بأداء الواجبات واجتناب المقبحات وهذا من فعله وقد أخبر سبحانه أنه جعلهم وسطا فاقتضى ذلك أن كونهم وسطا من فعل الله وذلك يقتضي أن يكون غير عدالتهم التي ليست من فعل الله وأجيب أيضا بأن الوسط اسم لما يكون متوسطا بين شيئين فجعله حقيقة في العدل يقتضي الاشتراك وهو خلاف الأصل سلمنا أن الوسط من كل شيء خياره فلم قلتم بأن خبر الله تعالى عن خيريتهم يقتضي اجتنابهم لكل المحظورات ولم لا يقال إنه يكفي فيه اجتنابهم للكبائر وأما الصغائر فلا‏؟‏ وإذا كان كذلك فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم ومما يؤيد هذا أنه سبحانه حكم بكونهم عدولا ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة سلمنا أن المراد اجتنابهم الصغائر والكبائر لكنه سبحانه قد بين أن اتصافهم بذلك ليكونوا شهداء على الناس ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تكون في الآخرة فيجب وجوب تحقق عدالتهم هنالك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حال الأداء لا حال التحمل سلمنا وجوب كونهم عدولا في الدنيا لكن المخاطب بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول الآية وإذا كان كذلك فهذا يقتضي عدالة أولئك دون غيرهم وقد أجيب عن هذا الجواب بأن الله سبحانه عالم بالباطن والظاهر فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد إلا والمخبر عنه مطابق للخبر فلما أطلق الله سبحانه القول بعدالتهم وجب أن يكونوا عدولا في كل شيء بخلاف شهود الحاكم حيث تجوز شهادتهم وإن جازت عليهم الصغيرة لأنه لا سبيل للحاكم إلى معرفة الباطن فلا جرم اكتفى بالظاهر وقوله الغرض من هذه العدالة أداء هذه الشهادة في الآخرة وذلك يوجب عدالتهم في الآخرة لا في الدنيا يقال لو كان المراد صيرورتهم عدولا في الآخرة لقال سنجعلكم أمة وسطا ولأن جميع الأمم عدول في الآخرة فلا يبقى في الآية تخصيص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة وكونه الخطاب لمن كان موجودا عند نزول الآية ممنوع وإلا لزم اختصاص التكاليف الشرعية بمن كان موجودا عند النزول وهو باطل ولا يخفاك ما في هذه الأجوبة من الضعف وعلى كل حال فليس في الآية دلالة على محل النزاع أصلا فإن ثبوت كون أهل الإجماع بمجموعهم عدولا لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية تعم بها البلوى فإن ذلك أمر إلى الشارع لا إلى غيره وغاية ما في الآية أن يكون قولهم مقبولا إذا أخبرونا عن شيء من الأشياء وأما كون اتفاقهم على أمر ديني يصير دينا ثابتا عليهم وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة فليس في الآية ما يدل على هذا ولا هي مسوقة لهذا المعنى ولا تقتضيه بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ومن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‏}‏ وهذه الخيرية توجب الحقيقة لما أجمعوا عليه وإلا كان ضلالا فماذا بعد الحق إلا الضلال وأيضا لو أجمعوا على الخطأ لكانوا آمرين بالمنكر وناهين عن المعروف وهو خلاف المنصوص والتخصيص بالصحابة لا يناسب وروده في مقابلة أمم سائر الأنبياء وأجيب بأن الآية مهجورة الظاهر لأنها تقتضي اتصاف كل واحد منهم بهذا الوصف والمعلوم خلافه ولو سلمنا ذلك لم نسلم أنهم يأمرون بكل معروف هكذا قيل في الجواب ولا يخفاك أن الآية لا دلالة لها على محل النزاع ألبتة فإن اتصافهم بكونهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية تصير دينا ثابتا على كل الأمة بل المراد أنهم يأمرون بما هو معروف في هذه الشريعة وينهون عما هو منكر فيها فالدليل على كون ذلك الشيء معروفا أو منكرا هو الكتاب أو السنة لا إجماعهم غاية ما في الباب إن إجماعهم يصير قرينة على أن في الكتاب والسنة ما يدل على ما أجمعوا عليه وإما إنه دليل بنفسه فليس في هذه الآية ما يدل على ذلك ثم الظاهر أن المراد من الأمة هذه الأمة بأسرها لا أهل عصر من العصور بدليل مقابلتهم بسائر أمم الأنبياء فلا يتم الاستدلال بها على محل النزاع وهو إجماع المجتهدين في عصر من العصور ومن جملة ما استدلوا به من السنة ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لن تجتمع أمتي على الضلالة» وتقرير الاستدلال بهذا الحديث أن عمومه ينفي وجود الضلالة والخطأ ضلالة فلا يجوز الإجماع عليه فيكون ما أجمعوا عليه حقا وأخرج أبو داود عن أبي مالك الأشعري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة» وأخرجه الترمذي عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار»‏.‏

وأخرج ابن أبي عاصم عن أنس مرفوعا نحوه بدون قوله ويد الله مع الجماعة الخ ويجاب عنه بمنع كون الخطأ المظنون ضلالة‏.‏

وأخرج البخاري ومسلم من حديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»‏.‏

وأخرج نحوه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث ثوبان وأخرج نحوه مسلم أيضا من حديث عقبة بن عامر ويجاب عن ذلك بأن غاية ما فيه أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن طائفة من أمته بأنهم يتمسكون بما هو الحق ويظهرون على غيرهم فأين هذا من محل النزاع‏؟‏

ثم قد ورد تعيين هذا الأمر الذي يتمسكون به ويظهرون على غيرهم بسببه فأخرج مسلم من حديث عقبة مرفوعا «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون عن أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك» وأخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين وأخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعا لزهير‏:‏ «لا يزال هذا الدين قائما تقاتل عنه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» ومن جملة ما استدلوا به حديث‏:‏ «من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر وليس في إلا المنع من مفارقة الجماعة فأين هذا من محل النزاع وهو كون ما أجمعوا عليه حجة ثابتة شرعية وكتاب الله وسنة رسوله موجودان بين أظهرنا وقد وصف الله سبحانه كتابه بقوله‏:‏ ‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء‏}‏ فلا يرجع في تبيين الأحكام إلا إليه وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول‏}‏‏.‏

والرد إلى الله الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول الرد إلى سنته والحاصل أنك إذا تدبرت ما ذكرناه في هذه المقامات وعرفت ذلك حق معرفته تبين لك ما هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ولو سلمنا جميع ما ذكره القائلون بحجية الإجماع وإمكانه وإمكان العلم به فغاية ما يلزم من ذلك أن يكون ما أجمعوا عليه حقا ولا يلزم من كون الشيء حقا وجوب اتباعه كما قالوا أن كل مجتهد مصيب ولا يجب على مجتهد آخر اتباعه في ذلك الاجتهاد بخصوصه وإذا تقرر لك هذا علمت ما هو الصواب وسنذكر ما ذكره أهل العلم في مباحث الإجماع من غير تعرض لدفع ذلك اكتفاء بهذا الذي حررناه هنا‏.‏

البحث الثالث‏:‏ ‏[‏حكم الإجماع عند القائلين به‏]‏

اختلف القائلون بحجية الإجماع هل هو حجة قطعية أو ظنية‏؟‏

فذهب جماعة منهم إلى أنه حجة قطعية وبه قال الصيرفي وابن برهان وجزم به من الحنفية الدبوسي وشمس الأئمة وقال الأصفهاني أن هذا القول هو المشهور وأنه يقدم الإجماع على الأدلة كلها ولا يعارضه دليل أصلا ونسبه إلى الأكثرين قال بحيث يكفر مخالفه أو يضلل يبدع وقال جماعة منهم الرازي والآمدي أنه لا يفيد إلا الظن وقال جماعة بالتفصيل بين ما اتفق عليه المعتبرون فيكون حجة قطعية وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتي وما ندر مخالفه فيكون حجة ظنية وقال البزدوي وجماعة من الحنفية الإجماع مراتب فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث والإجماع الذي سبق فيه الخلاف في العصر السابق بمنزلة خبر الواحد واختار بعضهم في الكل أنه ما يوجب العمل لا العلم فهذه مذاهب أربعة ويتفرع عليها الخلاف في كونه يثبت بأخبار الآحاد والظواهر أم لا‏؟‏‏.‏

فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت بهما قال القاضي في التقريب وهو الصحيح وذهب جماعة إلى ثبوته بهما في العمل خاصة ولا ينسخ به قاطع كالحال في أخبار الآحاد وقال دل الدليل على قبولها في العمليات‏.‏

وأجاب الجمهور عن هذا بأن أخبار الآحاد قد دل الدليل على قبولها ولم يثبت مثل ذلك في الإجماع فإن ألحقناه بها كان إلحاقا بطريق القياس وصحح هذا القول عبد الجبار والغزالي‏.‏

قال الرازي في المحصول الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة خلافا لأكثر الناس لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعا للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياسا على السنة ولأنا قد بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية فكيف القول في تفاصيله‏؟‏ انتهى

قال الآمدي والمسألة دائر على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعا به وعلى عدم اشتراطه فمن شرط القطع منع أن يكون خبر الواحد مفيدا في نقل الإجماع ومن لم يشترط لم يمنع وكلام الجويني يشعر بأن الخلاف ليس مبنيا على هذا الأصل بل هو جار مع القول بأن أصل الإجماع ظني وإذا قلنا بالاكتفاء بالآحاد في نقله كالسنة فهل ينزل الظن المتلقي من أمارات وحالات منزلة الظن الحاصل من نقل العدول قال ابن الأنباري فيه خلاف‏.‏

البحث الرابع‏:‏ ‏[‏ما ينعقد به الإجماع‏]‏

اختلفوا فيما ينعقد به الإجماع، فقال جماعة لابد من مستند لأن أهل الإجماع ليس لهم الاستقلال بإثبات الأحكام فوجب أن يكون عن مستند ولأنه لو انعقد عن غير مستند لاقتضى إثبات نوع بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو باطل وحكى عبد الجبار عن قوم أنه يجوز أن يكون عن غير مستند وذلك بأن يوفقهم الله لاختيار الصواب من دون مستند وهو ضعيف لأن القول في دين الله لا يجوز بغير دليل وذكر الآمدي أن الخلاف في الجواز لا في الوقوع ورد عليه بأن ظاهر الخلاف في الوقوع

قال الصيرفي ويستحيل أن يقع الإجماع بالتواطؤ ولهذا كانت الصحابة لا يرضى بعضهم من بعض بذلك بل يتباحثون حتى أحوج بعضهم القول في الخلاف إلى المباهلة فثبت أن الإجماع لا يقع منهم إلا عن دليل وجعل الماوردي والروياني أصل الخلاف هل الإلهام دليل أم لا‏؟‏

وقد اتفق القائلون بأنه لابد له من مستند إذا كان عن دلالة واختلفوا فيما إذا كان عن أمارة فقيل بالجواز مطلقا سواء كانت الأمارة جلية أو خفيفة قال الزركشي في البحر ونص عليه الشافعي فجوز الإجماع عن قياس وهو قول الجمهور قال الروياني وبه قال عامة أصحابنا وهو المذهب‏.‏

قال ابن القطان لا خلاف بين أصحابنا في جواز وقوع الإجماع عنه في قياس المعنى على المعنى وأما قياس الشبه فاختلفوا فيه على وجهين وإذا وقع عن الأمارة وهي المفيد للظن وجب أن يكون الظن صوابا للدليل على العصمة‏.‏

والثاني‏:‏ المنع مطلقا وبه قال الظاهرية ومحمد بن جرير الطبري فالظاهرية منعوه لأجل إنكارهم القياس وأما ابن جرير فقال القياس حجة ولكن الإجماع إذا صدر عنه لم يكن مقطوعا بصحته واحتج ابن القطان على ابن جرير بأنه قد وافق على وقوعه عن خبر الواحد وهم مختلفون فيه فكذلك القياس ويجاب عنه بأن خبر الواحد قد أجمعت عليه الصحابة بخلاف القياس‏.‏

والمذهب الثالث‏:‏ التفصيل بين كون الأمارة جلية فيجوز انعقاد الإجماع عنها أو خفية فلا يجوز حكاه ابن الصباغ عن بعض الشافعية‏.‏

والمذهب الرابع‏:‏ أنه لا يجوز الإجماع إلا عن أمارة ولا يجوز عن دلالة للاستغناء بها عنه حكاه السمرقندي في الميزان عن مشايخهم وهو قادح فيما نقله البعض من الإجماع على جواز انعقاد الإجماع عن دلالة ثم اختلف القائلون يجوز انعقاد الإجماع عن غير دليل هل يكون حجة فذهب الجمهور إلى أنه حجة وحكى ابن فورك وعبد الوهاب وسليم الرازي عن قوم منهم أنه لا يكون حجة ثم اختلفوا هل يجب على المجتهد أن يبحث عن مستند الإجماع أم لا‏؟‏

فقال الأستاذ أبو إسحاق لا يجب على المجتهد طلب الدليل الذي وقع الإجماع به فإن ظهر له ذلك أو نقل إليه كان أحد أدلة المسألة قال أبو الحسن السهيلي‏:‏ إذا أجمعوا على حكم ولم يعلم أنهم أجمعوا عليه من دلالة آية أو قياس أو غيره يجب المصير إليه لأنهم لا يجمعون إلا من دلالة ولا يجب معرفتها‏.‏

البحث الخامس‏:‏ ‏[‏حكم المجتهد المبتدع‏]‏

هل يعتبر في الإجماع المجتهد المبتدع إذا كانت بدعته تقتضي تكفيره، فقيل لا يعتبر في الإجماع قال الزركشي بلا خلاف لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه قال الصفي الهندي لو ثبت لكان لا يمكن الاستدلال بإجماعنا على كفره بسبب ذلك الاعتقاد لأنه إنما ينعقد إجماعنا وحده على كفره وإثبات كفره بإجماعنا وحده دور وأما إذا وافقنا هو على ما ذهب إليه كفر فحينئذ يثبت كفره لأن قوله معتبر في الإجماع لكونه من أهل الحل والعقد قال الهندي وهو الصحيح‏.‏

الثاني‏:‏ لا يعتبر قال الأستاذ أبو منصور قال أهل السنة لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة وهكذا رواه أشهب عن مالك ورواه العباس بن الوليد عن الأوزاعي ورواه أبو سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن وحكاه أبو ثور عن أئمة الحديث‏.‏

قال أبو بكر الصيرفي ولا يخرج عن الإجماع من كان من أهل العلم وإن اختلفت بهم الأهواء كمن قال بالقدر ومن رأى الأرجاء وغير ذلك من اختلاف آراء أهل الكوفة والبصرة إذا كان من أهل الفقه فإذا قيل قالت الخطابية والرافضة كذا لم يلتفت إلى هؤلاء في الفقه لأنهم ليسوا من أهله‏.‏

قال ابن القطان الإجماع عندنا إجماع أهل القلم فأما من كان من أهل الأهواء فلا مدخل له فيه قال قال أصحابنا في الخوارج لا مدخل لهم في الإجماع والاختلاف لأنهم ليس لهم أصل ينقلون عنه لأنهم يكفرون سلفنا الذين أخذنا عنهم أصل الدين وممن اختار أنه لا يعتد به من الحنفية أبو بكر الرازي ومن الحنابلة القاضي أبو يعلى واستقرأه من قول أحمد لقوله لا يشهد عندي رجل ليس هو عندي بعدل وكيف أجوز حكمه‏.‏

قال القاضي يعني الجهمي‏:‏

القول الثالث‏:‏ أنه لا ينعقد عليه الإجماع وينعقد على غيره يعني أنه يجوز له مخالفة من عداه إلى ما أدى إليه اجتهاده ولا يجوز لأحد أن يقلده كذا حكاه الآمدي وتابعه المتأخرون‏.‏

القول الرابع‏:‏ التفصيل بين من كان من المجتهدين المبتدعين داعية فلا يعتبر في الإجماع وبين من لم يكن داعية فيعتبر حكاه ابن حزم في كتاب الأحكام ونقله عن جماهير سلفهم من المحدثين قال وهو قول فاسد لأنا نراعي العقيدة‏.‏

قال القاضي أبو بكر والأستاذ أبو إسحاق أنه لا يعتد بخلاف من أنكر القياس ونسبه إلى الجمهور وتابعهم إمام الحرمين والغزالي قالوا لأن من أنكر لا يعرف طرق الاجتهاد وإنما هو متمسك بالظواهر فهو كالعامي الذي لا معرفة له ولا يخفاك أن هذا التعليل يفيد خروج من عرف القياس وأنكر العمل به كما كان من كثير من الأئمة فإنهم أنكروه عن علم به لا عن جهل له‏.‏

قال النووي في باب السواك من شرح مسلم إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون وقال صاحب المفهم جل الفقهاء والأصوليين أنه لا يعتد بخلافهم بل هم من جملة العوام وأن من اعتد بهم فإنما ذلك لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع والحق خلافه وقال القاضي وعبد الوهاب في الملخص يعتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل ويمنع العموم ومن حمل الأمر على الوجوب لأن مدار الفقه على هذه الطرق‏.‏

وقال الجويني المحققون لا يقيمون لخلاف الظاهرية وزنا لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ولا تفي النصوص بعضر معاشرها ويجاب عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها وتدبر آيات الكتاب العزيز وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة علم بأن نصوص الشريعة جمع جم ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا قياس مقبول وتلك شكاة ظاهر عنك عارها‏.‏

نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذهب غيرهم من العمل بما لا دليل عليه ألبتة قليلة جدا‏.‏

البحث السادس‏:‏ ‏[‏التابعي المجتهد إذا أدرك عصر الصحابة‏]‏

إذا أدرك التابعي عصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد لم ينعقد إجماعهم إلا به، كما حكاه جماعة منهم القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني وأبو الحسن السهيلي قال القاضي عبد الوهاب أنه الصحيح ونقله السرخسي من الحنفية عن أكثر أصحابهم قال ولهذا قال أبو حنيفة لا يثبت إجماع الصحابة في الأشعار لأن إبراهيم النخعي كان يكرهه وهو ممن أدرك عصر الصحابة فلا يثبت إجماعهم بدون قوله والوجه في هذا القول أن الصحابة عند إدراك بعض مجتهدي التابعين فيهم هم بعض الأمة لا كلها وقد سئل ابن عمر عن فريضة فقال اسألوا ابن جبير فإنه أعلم بها وكان أنس يسأل فيقول سلوا مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا وسئل ابن عباس عن دلج الولد فأشار إلى مسروق فلما بلغه جوابه تابعه عليه‏.‏

وقال جماعة إنه لا يعتبر المجتهد التابعي الذي أدرك عصر الصحابة في إجماعهم وهو مروي عن إسماعيل بن علية ونفاه القياس وحكاه الباجي عن ابن خواز منداد واختاره ابن برهان في الوجيز وقيل إن بلغ التابعي رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة ثم وقعت حادثة فأجمعوا عليها وخالفهم لم ينعقد إجماعهم وإن أجمعوا قبل بلوغه رتبة الاجتهاد فمن اعتبر انقرض العصر اعتد بخلافه ومن لم يعتبره لم يعتد بخلافه وقال القفال إذا عاصرهم وهو غير مجتهد ثم اجتهد ففيه وجهان يعتبر ولا يعتبر‏.‏

قال بعضهم أنه إذا تقدم الصحابة على اجتهاد التابعي فهو محجوج بإجماعهم قطعا قال الآمدي القائلون بأنه لا ينعقد إجماعهم دونهم اختلفوا فمن لم يشترط انقراض العصر قال إن كان من أهل الاجتهاد قبل إجماع الصحابة لم ينعقد إجماعهم وإلا لم يعتد بخلافه قال وهذا مذهب الشافعي وأكثر المتكلمين وأصحاب أبي حنيفة وهي رواية عن أحمد ومن اشترط انقراض العصر قال لا ينعقد إجماع الصحابة به مع مخالفته وإن بلغ الاجتهاد حال انعقاد إجماعهم أو بعد ذلك في عصرهم قال وذهب قوم إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلا وهو مهب بعض المتكلمين وأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى‏.‏

البحث السابع‏:‏ ‏[‏حجية إجماع الصحابة‏]‏

إجماع الصحابة حجة بلا خلاف‏.‏

ونقل القاضي عبد الوهاب عن قوم من المبتدعة أن إجماعهم ليس بحجة وقد ذهب إلى اختصاص حجية الإجماع بإجماع الصحابة داود الظاهري وهو ظاهر كلام ابن حبان في صحيحه وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال في رواية أبي داود عنه الإجماع أن يتبع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وهو في التابعين مخير وقال أبو حنيفة إذا أجمعت الصحابة على شيء سلمنا وإذا أجمع التابعون زاحمناهم قال أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل النقل عن داود بما إذا أجمعوا على حكم من جهة القياس فاختلفوا فيه وقال ابن وهب ذهب داود وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو إجماع الصحابة فقط وهو قول لا يجوز خلافه لأن الإجماع إنما يكون عن توقيف والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف فإن قيل فما تقولون في إجماع من بعدهم قلنا هذا لا يجوز لأمرين أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أنبأ عن ذلك فقال‏:‏ «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» والثاني أن تسعة أقطار الأرض وكثرة العدد لا تمكن من ضبط أقوالهم ومن ادعى هذا لا يخفي على أحد كذبه‏.‏

البحث الثامن‏:‏ ‏[‏حكم إجماع أهل المدينة‏]‏

إجماع أهل المدينة على انفرادهم ليس بحجة عند الجمهور؛ لأنهم بعض الأمة وقال مالك إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم قال الشافعي في كتاب اختلاف الحديث قال بعض أصحابنا إنه حجة وما سمعت أحد ذكر قوله إلا عابه وأن ذلك عندي معيب وقال الجرجاني إنما أراد مالك الفقهاء السبعة وحدهم والمشهور عنه الأول ويشكل على ما روى عن مالك من حجية إجماع أهل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ولا يبرئ من العيب أصلا علمه أو جهله ثم خالفهم فلو كان يرى أن إجماعهم حجة لم تسع مخالفته وقال الباجي إنما أراد ذلك بحجية إجماع أهل المدينة فيما كان طريقة النقل المستفيض كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة في الخضروات مما تقتضي العادة بأن يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء وحكاه القاضي في التقريب عن شيخه الأبهري وقيل يرجح نقلهم عن نقل غيرهم وقد أشار الشافعي إلى هذا في القديم ورجح رواية‏.‏

وحكى يونس بن عبد الأعلى قال قال الشافعي إذا وجدت متقدمي أهل المدينة على شيء فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق وكلما جاءك شيء غير ذلك فلا تلتفت إليه ولا تعبأ به وقال القاضي عبد الوهاب‏:‏ إجماع أهل المدينة على ضربين نقلي واستدلالي فالأول على ثلاثة أضرب منه نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم إما قول أو فعل أو إقرار فالأول كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأجناس ونحوهن والثاني نقلهم المتصل كعهدة الرقيق وغير ذلك كتركهم أخذ الزكاة من الخضروات مع أنها كانت تزرع بالمدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لا يأخذون منها قال وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه وترك الأخبار والمقاييس به لا اختلاف بين أصحابنا فيه قال والثاني وهو إجماعهم من طريق الاستدلال فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها أنه ليس بإجماع ولا بمرجح وهو قول أبي بكر وأبي يعقوب الرازي والقاضي أبي بكر وابن فورك والطيالسي وأبي الفرج والأبهري وأنكر كونه مذهبا لذلك‏.‏

ثانيها أنه مرجح وبه قال بعض أصحاب الشافعي‏.‏

ثالثها أنه حجة ولم يحرم خلافه وإليه ذهب قاضي القضاة أبو الحسين بن عمر قال أبي العباس القرطبي أما الضرب الأول فينبغي أن لا يختلف فيه لأنه من باب النقل المتواتر ولا فرق بين القول والفعل والإقرار كل ذلك نقل محصل للعلم القطعي فإنهم عدد كثير وجم غفير تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق ولا شك أن ما كان هذا سبيله أولى من أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر ثم قال والنوع الاستدلالي أن عارضه خبر فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا وقد صار جماعة إلى أنه أولى من الخبر بناء منهم على أنه إجماع وليس بصحيح لأن المشهود له بالعصمة إجماع كل الأمة لا بعضها وإجماع أهل الحرمين مكة والمدينة وأهل المصرين البصرة والكوفة ليس بحجة لأنهم بعض الأمة وقد زعم بعض أهل الأصول أن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة ولا وجه لذلك‏.‏

وقد قدمنا قول من قال بحجية إجماع أهل المدينة فمن قال بذلك فهو قائل بحجية إجماع أهل مكة والمدينة والمصرين بالأولى قال القاضي وإنما خصوا هذه المواضع يعني القائلين بحجية إجماع أهلها لاعتقادهم تخصيص الإجماع بالصحابة وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ‏.‏

قال الزركشي وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا في كل عصر بل في عصر الصحابة فقط قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قيل أن المخالف أراد زمن الصحابة والتابعين فإن كان هذا مراده فمسلم لو اجتمع العلماء في هذه البقاع وغير مسلم أنهم اجتمعوا فيها وذهب الجمهور أيضا إلى إجماع الخلفاء الأربعة ليس بحجة لأنهم بعض الأمة وروى عن أحمد أنه حجة‏.‏

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه حجة لما ورد ما يفيد ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» وقوله‏:‏ «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وهما حديثان صحيحان ونحو ذلك وأجيب بأن الحديثين دليلا على أنهم أهل للاقتداء بهم لا على أن قولهم حجة على غيرهم فإن المجتهد‏.‏

مستعبد بالبحث عن الدليل حتى يظهر له ما يظنه حقا ولو كان مثل ذلك يفيد حجية قول الخلفاء أو بعضهم لكان حديث‏:‏ «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد» يفيد حجية قول ابن مسعود وحديث أن أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة يفيد حجية قوله وهما حديثان صحيحان وهكذا حديث‏:‏ «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» يفيد حجية قول كل واحد منهم وفيه مقال معروف لأن في رجاله عبد الرحيم العمي عن أبيه وهما ضعيفان جدا بل قال ابن معين إن عبد الرحيم كذاب وقال البخاري متروك وكذا قال أبو حاتم وله طريق أخرى فيها حمزة النصيبي وهو ضعيف جدا قال البخاري منكر الحديث وقال ابن معين لا يساوي فلسا وقال ابن عدي عامة مروياته موضوعة وروي أيضا من طريق جميل بن زيد وهو مجهول وذهب الجمهور أيضا إلى أن إجماع العشرة وحدها ليس بحجة وقالت الزيدية والإمامية هو حجة واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا‏}‏ والخطأ رجس فوجب أن يكونوا مطهرين عنه وأجيب بأن سياق الآية يفيد أنه في نسائه صلى الله عليه وسلم ويجاب عن هذا الجواب بأنه قد ورد الدليل الصحيح أنها نزلت في علي وفاطمة والحسنين وقد أوضحنا الكلام في هذا في تفسيرنا الذي سميناه فتح القدير فليرجع إليه ولكن لا يخفاك أن كون الخطأ رجس لا يدل عليه لغة ولا شرع فإن معناه في اللغة القذر ويطلق في الشرع على العذاب كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من رجز أليم‏}‏ والرجز الرجس واستدلوا بمثل قوله‏:‏ ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى‏}‏ وبأحاديث كثيرة جدا تشتمل على مزيد شرفهم وعظيم فضلهم ولا دلالة فيها على حجية قولهم وقد أبعد من استدل بها على ذلك وقد عرفناك في حجية إجماع أهل الأمة ما هو الحق ووروده على القول بحجية بعضها أولى‏.‏

البحث التاسع‏:‏ ‏[‏حكم من سيوجد‏]‏

اتفق القائلون بحجية الإجماع أنه لا يعتبر من سيوجد، ولو اعتبر ذلك لم يكن ثم إجماع إلا عند قيام الساعة وعند ذلك لا تكليف فلا يكون في الإجماع فائدة وقد روي الخلاف في ذلك عن أبي عيسى الوارث وأبي عبد الرحمن الشافعي كما حكاه الأستاذ أبو منصور‏.‏

البحث العاشر‏:‏ ‏[‏انقراض عصر أهل الإجماع‏]‏

اختلفوا هل يشترط انقراض عصر أهل الإجماع في حجية إجماعهم أم لا‏؟‏

فذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط وذهب جماعة من الفقهاء ومنهم أحمد بن حنبل وجماعة من المتكلمين منهم الأستاذ أبو بكر بن فورك إلى أنه يشترط وقيل إن كان الإجماع بالقول والفعل أو بأحدهما فلا يشترط وإن كان الإجماع بالسكوت عن مخالفة القائل فيشترط روي هذا عن أبي علي الجبائي وقال الجويني إن كان عن قياس كان شرطا وإلا فلا‏.‏

البحث الحادي عشر‏:‏ في الإجماع السكوتي

وهو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر فيسكتون ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار وفيه مذاهب‏.‏

الأول‏:‏ أنه ليس بإجماع ولا حجة قاله داود الظاهري وابنه والمرتضى وعزاه القاضي إلى الشافعي واختاره وقال أنه آخر أقوال الشافعي وقال الغزالي والرازي والآمدي إنه نص الشافعي في الجديد وقال الجويني إنه ظاهر مذهبه‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه إجماع وحجة وبه قال جماعة من الشافعية وجماعة من أهل الأصول وروي نحوه عن الشافعي قال الأستاذ أبو إسحق‏:‏ اختلف أصحابنا في تسميته إجماعا مع اتفاقهم على وجوب العلم به وقال أبو الإسفرائيني هو حجة مقطوع بها وفي تسميته إجماعا من الشافعية قولان‏:‏ أحدهما المنع وإنما هو حجة كالخبر والثاني يسمى إجماعا وهو قولنا انتهى واستدل القائلون بهذا القول بأن سكوتهم ظاهر في الموافقة إذ يبعد سكوت الكل مع اعتقاد المخالفة عادة فكان ذلك محصلا للظن بالاتفاق وأجيب باحتمال أن يكون سكوت من سكت على الإنكار لتعارض الأدلة عنده أو لعدم حصول ما يفيده الاجتهاد في تلك الحادثة إثباتا أو نفيا أو للخوف على نفسه أو ذلك من الاحتمالات‏.‏

القول الثالث‏:‏ أنه حجة وليس بإجماع قاله أبو هاشم وهو أحد الوجهين عند الشافعي كما سلف وبه قال الصيرفي واختاره الآمدي قال الصفي الهندي ولم يصر أحد إلى عكس هذا القول يعني أنه اجتماع لا حجة ويمكن القول به كالإجماع المروي بالأحاديث عند من لم يقل بحجيته‏.‏

القول الرابع‏:‏ أنه إجماع بشرط انقراض العصر لأنه يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا وبه قال أنه على الجبائي وأحمد في رواية عنه ونقله ابن فورك في كتاب عن أكثر أصحاب الشافعي ونقله الأستاذ أبو طاهر البغدادي عن الحذاق منهم واختاره ابن القطان والروياني قال الرافعي إنه أصح الأوجه عند أصحاب الشافعي وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع أنه المذهب قال‏:‏ فأما قبل الانقراض ففيه طريقان إحداهما أنه ليس بحجة قطعا والثانية على وجهين‏.‏

القول الخامس‏:‏ أنه إجماع إن كان فتيا لا حكما وبه قال ابن أبي هريرة كما حكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي والرافعي وابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب ووجه هذا القول أنه لا يلزم من صدوره عن الحاكم أن يكون قاله على وجه الحكم وقيل أن الحاكم لا يعترض عليه في حكمه فلا يكون السكوت دليل الرضا ونقل ابن السمعاني عن ابن أبي هريرة أنه احتج لقوله هذا بقوله أنا نحضر مجلس بعض الحكام ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا ولا ننكر ذلك عليهم فلا يكون سكوتنا رضا منا بذلك‏.‏

القول السادس‏:‏ أنه إجماع إن كان صادرا عن فتيا قاله أبو إسحاق المروزي وعلل ذلك بأن الأغلب أن الصادر من الحاكم يكون عن مشاورة وحكاه ابن القطان عن الصيرفي‏.‏

القول السابع‏:‏ أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج كان إجماعا وإلا فهو حجة وفي كونه إجماعا وجهان‏:‏ حكاه الزركشي ولم ينسبه إلى قائل‏.‏

القول الثامن‏:‏ إن كان الساكتون أقل كان إجماعا وإلا فلا قاله أبو بكر الرازي وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن الشافعي قال الزركشي وهو غريب لا يعرفه أصحابه‏.‏

القول التاسع‏:‏ إن كان في عصر الصحابة كان إجماعا وإلا فلا قال الماوردي في الحاوي والروياني في البحر إن كان عصر الصحابة فإذا قال الواحد منهم قولا أو حكم به فأمسك الباقون فهذا ضربان‏:‏ أحدهما مما يفوت استدراكه كإراقة دم واستباحة فرج فيكون إجماعا لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار منكر وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة لأن الحق لا يخرج عن غيرهم وفي كونه إجماعا يمنع الاجتهاد وجهان لأصحابنا‏:‏ أحدهما يكون إجماعا لا يسوغ معه الاجتهاد والثاني لا يكون إجماعا سواء كان القول فتيا أو حكما على الصحيح‏.‏

القول العاشر‏:‏ أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه فإنه يكون السكوت إجماعا وبه قال إمام الحرمين الجويني قال الغزالي في المنخول المختار أنه لا يكون حجة إلا في صورتين‏:‏

أحدهما سكوتهم وقد قطع بين أيديهم قاطع لا في مظنة القطع والدواعي تتوفر على الرد عليه‏.‏

الثاني‏:‏ ما يسكتون عليه على استمرار العصر وتكون الواقعة بحيث لا يبدي أحد خلافا فأما إذا حضروا مجلسا فأفتى واحد وسكت آخرون فذلك اعتراض لكون المسألة مظنونة والأدب يقتضي أن لا يعترض على القضاة والمفتين‏.‏

القول الحادي عشر‏:‏ أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول واختار هذا الغزالي في المستصفى وقال بعض المتأخرين أنه أحق الأقوال لأن إفادة القرائن العلم بالرضا كإفادة النطق له فيصير كالإجماع القطعي‏.‏

القول الثاني عشر‏:‏ أنه يكون حجة قبل استقرار المذاهب لا بعدها فإنه لا أثر للسكوت لما تقرر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إذا أفتى أو حكم بمذهبه مع مخالفته لمذاهب غيره وهذا التفصيل لابد منه على جميع المذاهب السابقة هذا في الإجماع السكوتي إذا كان سكوتا عن قول وأما لو اتفق أهل الحل والعقد على عمل ولم يصدر منهم قول واختلفوا في ذلك فقيل إنه كفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثوبتها للشارع فكانت أفعالهم كأفعاله وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره وقال الغزالي في المنخول أنه المختار وقيل بالمنع ونقله الجويني عن القاضي إذ لا يتصور تواطؤ قوم لا يحصون عددا على فعل واحد من غير أرباب فالتواطؤ عليه غير ممكن وقيل إنه ممكن ولكنه محمول على الإباحة حتى يقوم دليل على الندب أو الوجوب وبه قال الجويني قال القرافي وهذا تفصيل حسن وقيل إن كل فعل خرج مخرج البيان أو مخرج الحكم لا ينعقد به الإجماع وبه قال ابن السمعاني‏.‏

البحث الثاني عشر‏:‏ ‏[‏هل يجمع على شيء وقع الإجماع على خلافه‏]‏

هل يجوز الإجماع على شيء وقد وقع الإجماع على خلافه‏؟‏

فقيل إن كان الإجماع الثاني من المجمعين على الحكم الأول كما لو اجتمع أهل مصر على حكم ثم ظهر لهم ما يوجب الرجوع عنه وأجمعوا على ذلك الذي ظهر لهم ففي جواز الرجوع خلاف مبني على الخلاف المتقدم في اشتراط انقراض عصر أهل الإجماع فمن اعتبره جوز ذلك ومن لم يعتبره لم يجوزه أما إذا كان الإجماع من غيرهم فمنعه الجمهور لأنه يلزم تصادم الإجماعين وجوزه أبو عبد الله البصري قال الرازي وهو الأولى واحتج الجمهور بأن كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف له وقال أبو عبد الله البصري إنه لا يقتضي ذلك لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية هي حصول إجماع آخر قال الصفي الهندي ومأخذ أبي عبد الله قوي وحكى أبو الحسن السهيلي في آداب الجدل له في هذه المسألة أنها إذا أجمعت الصحابة على قول ثم أجمع التابعون على قول آخر فعن الشافعي جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو الأصح أنه لا يجوز وقوع مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته لا تجتمع على ضلالة‏.‏

والثاني‏:‏ لو صح وقوعه فإنه يجب على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة وقال وقيل إن كل واحد منهما حق وصواب على قول من يقول إن كل مجتهد مصيب وليس بشيء انتهى‏.‏

البحث الثالث عشر‏:‏ في حدوث الإجماع بعد سبق الخلاف

قال الرازي في المحصول‏:‏ إذا اتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كان ذلك إجماعا لا تجوز مخالفته خلافا لكثير من المتكلمين وكثير من الفقهاء الشافعية والحنفية وقيل هذه المسألة على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن لا يستقر الخلاف وذلك بأن يكون أهل الاجتهاد في مهلة النظر ولم يستقر لهم قول كخلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في قتال مانعي الزكاة وإجماعهم عليه بعد ذلك فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع صارت المسألة إجماعية بلا خلاف وحكى الجويني والهندي أن الصيرفي خالف في ذلك‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن يستقر الخلاف ويمضي عليه مدة فقال القاضي أبو بكر بالمنع وإليه مال الغزالي ونقله ابن برهان في الوجيز عن الشافعي وجزم به الشيخ أبو إسحاق في اللمع ونقل الجويني عن أكثر أهل الأصول الجواز واختاره الرازي والآمدي وقيل بالتفصيل وهو الجواز فيما كان دليل خلافه القاطع عقليا كان أو نقليا ونقل الأستاذ أبو منصور إجماع أصحاب الشافعي على أنه حجة وبذلك جزم الماوردي والروياني فأما لو وقع الخلاف بين عصر ثم ماتت إحدى الطائفتين من المختلفين وبقيت الطائفة الأخرى فقال الأستاذ أبو إسحاق إنه يكون قول الباقين إجماعا واختاره الرازي والهندي‏.‏

قال الرازي في المحصول لأن بالموت ظهر اندراج قول ذلك القسم وحده تحت أدلة الإجماع ورجح القاضي في التقريب أنه لا يكون إجماعا قال لأن الميت في حكم الباقي الموجود والباقون هم بعض الأمة لا كلها وجزم به الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب الجدل وكذا الخوارزمي في الكافي وحكى أبو بكر الرازي في هذه المسألة قولا ثالثا فقال إن لم يسوغوا فيه الاختلاف صار حجة لأن قول الطائفة المتمسكة بالحق لا يخلو منه زمان وقد شهدت ببطلان قول المنقرضة فوجب أن يكون قولها حجة وإن سوغوا فيه الاجتهاد لم يصر إجماعا لإجماع الطائفتين على تسويغ الخلاف‏.‏

البحث الرابع عشر‏:‏ إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث‏؟‏

اختلفوا في ذلك على أقوال‏:‏

الأول‏:‏ المنع مطلقا لأنه كاتفاقهم على أنه لا قول سوى هذين القولين قال الأستاذ أبو منصور وهو قول الجمهور قال إلكيا إنه صحيح وبه الفتوى وجزم به القفال الشاشي والقاضي أبو الطيب الطبري والروياني والصيرفي ولم يحكيا خلافه إلا عن بعض المتكلمين وحكى ابن القطان الخلاف في ذلك عن داود‏.‏

القول الثاني‏:‏ الجواز مطلقا حكاه ابن برهان وابن السمعاني عن بعض الحنفية والظاهرية ونسبه جماعة منهم القاضي عياض إلى داود وأنكر ابن حزم على من نسبه إلى داود‏.‏

القول الثالث‏:‏ إن ذلك القول الحادث بعد القولين إن لزم منه رفعهما لم يجز إحداثه وإلا جاز وروي هذا التفصيل عن الشافعي واختاره المتأخرون من أصحابه ورجحه جماعة من الأصوليين منهم ابن الحاجب واستدلوا له بأن القول الحادث الرافع للقولين مخالف لما وقع الإجماع عليه والقول الحادث الذي لم يرفع القولين غير مخالف لهما بل موافق لكل واحد منهما من بعض الوجوه ومثل الاختلاف على قولين‏:‏ الاختلاف على ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فإنه يأتي في القول الزائد على الأقوال التي اختلفوا فيها ما يأتي في القول الثالث من الخلاف ثم لابد من تقييد هذه المسألة بأن يكون الخلاف فيها على قولين أو أكثر قد استقر أما إذا لم يستقر فلا وجه للمنع من إحداث قول آخر‏.‏

البحث الخامس عشر‏:‏ ‏[‏حكم إحداث دليل غير الدليل المجمع عليه‏]‏

إذا استدل أهل العصر بدليل وأولوا بتأويل فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل آخر من غير إلغاء الأول أو إحداث تأويل غير التأويل الأول‏؟‏

فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لأن الإجماع والاختلاف إنما هو في الحكم على الشيء بكونه كذا وأما الاستدلال بالدليل أو العمل بالتأويل فليس من هذا الباب‏.‏

قال ابن القطان وذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس لنا أن نخرج عن دلالتهم ويكون إجماعا على الدليل لا على الحكم وأجيب عنه بأن المطلوب من الأدلة أحكامها لا أعيانها نعم إن أجمعوا على إنكار الدليل الثاني لم يجز إحداثه لمخالفة الإجماع وذهب بعض أهل العلم إلى الوقف وذهب ابن حزم إلى التفصيل بين النص فيجوز الاستدلال به ويبين غيره فلا يجوز إحداثه وبين الخفي فيجوز لجواز اشتباهه على الأولين‏.‏

قال أبو الحسين البصري إلا أن يكون في صحة ما استدلوا به إبطال ما أجمعوا عليه وقال سليم الرازي إلا أن يقولوا ليس فيها دليل إلا الذي ذكرناه فيمتنع وأما إذا عللوا الحكم بعلة فهل يجوز لمن بعدهم أن يعلله بعلة أخرى‏؟‏ فقال الأستاذ أبو منصور وسليم الرازي هي كالدليل في جواز إحداثها إلا إذا قالوا لا علة إلا هذه أو تكون العلة الثانية مخالفة للعلة الأولى في بعض الفروع فتكون حينئذ الثانية فاسدة‏.‏

البحث السادس عشر‏:‏ ‏[‏هل يشترك أهل الإجماع في عدم العلم بدليل لا معارض له‏]‏

هل يمكن وجود دليل لا معارض له اشترك أهل الإجماع في عدم العلم به‏؟‏

قيل بالجواز إن كان عمل الأمة موافقا له وعدمه إن كان مخالفا له واختار هذا الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي وقيل بالجواز مطلقا وقيل بالمنع مطلقا قال الرازي في المحصول يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به لأن عدم العلم بذلك الشيء إذا كان صوابا لم يلزم من إجماعهم عليه محذور وللمخالف أن يقول لو اجتمعوا على عدم العلم بذلك الشيء لكان عدم العلم به سبيلا لهم وكان يجب اتباعهم فيه حتى يحرم تفصيل العلم به قال الزركشي في البحر هما مسألتان‏:‏

إحداهما‏:‏ هل يجوز اشتراك الأمة في الجهل بما لم يكلفوا به‏؟‏ فيه قولان‏.‏

الثانية‏:‏ هل يمكن وجود خبر أو دليل لا معارض له وتشترك الأمة في عدم العلم به‏؟‏ وأما ذكر واحد من المجمعين خبرا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد بصحة الحكم الذي انعقد عليه الإجماع‏؟‏ فقال ابن برهان في الوجيز أنه يجب عليه ترك العمل بالحديث وقال قوم إن ذلك يستحيل وهو الأصح من المذاهب فإن الله سبحانه عصم الأمة عن نسيان حديث في الحادثة ولولا ذلك خرج الإجماع عن أن يكون قطعيا وبناه في الأوسط على الخلاف في انقراض العصر فمن قال ليس بشرط منع الرجوع ومن اشترط جوزه والجمهور على الأول يتطرق إلى الحديث احتمالات من النسخ والتخصيص ما لا يتطرق إلى الإجماع‏.‏

البحث السابع عشر‏:‏ ‏[‏لا عبرة بالعوام في الإجماع‏]‏

لا اعتبار بقول العوام في الإجماع ولا وفاقا ولا خلافا عند الجمهور لأنهم ليسوا من أهل النظر في الشرعيات ولا يفهمون الحجة ولا يعقلون البرهان وقيل يعتبر قولهم لأنهم من جملة الأمة وإنما كان قول الأمة حجة لعصمتها من الخطأ ولا يمتنع أن تكون العصمة لجميع الأمة عالمها وجاهلها حكى هذا القول ابن الصباغ وابن برهان عن بعض المتكلمين واختاره الآمدي ونقله الجويني وابن السمعاني والصفي الهندي عن القاضي أبي بكر قال في مختصر التقريب فإن قال قائل فإذا أجمع الأمة على حكم من الأحكام مما يحصل فيه اتفاق الخاص والعام كوجوب الصلاة والزكاة وغيرهما فما هذا سبيله يطلق القول بأن الأمة أجمعت عليه‏.‏

وأما ما أجمع عليه العلماء من أحكام الفروع التي تشذ عن العوام فقد اختلف أصحابنا في ذلك فقال بعضهم العوام يدخلون في حكم الإجماع وذلك أنهم وإن لم يعرفوا تفاصيل الأحكام فقد عرفوا على الجملة أن ما أجمع عليه علماء الأمة في تفاصيل الأحكام فهو مقطوع به فهذا مساهمة منهم في الإجماع وإن لم يعلموا على التفصيل ومن أصحابنا من زعم لا يكونون مساهمين في الإجماع فإنه إنما يتحقق الإجماع في التفاصيل بعد العلم بها فإذا لم يكونوا عالمين بها فلا يتحقق كونهم من أهل الإجماع‏.‏

قال أبو الحسين في المعتمد اختلفوا في اعتبار قول العامة في المسائل الاجتهادية فقال قوم العامة وإن وجب عليها اتبع العلماء فإن إجماع العلماء لا يكون حجة على أهل العصر حتى لا تسوغ مخالفتهم إلا بأن يتبعهم العامة من أهل عصرهم فإن لم يتبعوهم لم يجب على أهل العصر الثاني من العلماء اتباعهم وقال آخرون بل هو حجة مطلقا‏.‏

وحكى القاضي عبد الوهاب وابن السمعاني أن العامة معتبرة في الإجماع في العام دون الخاص قال الرويني في البحر إن اختص بمعرفة الحكم العلماء كنصب الزكوات وتحريم نكاح المرأة وعمتها وخالتها لم يعتبر وفاق العامة معهم وإن اشترك في معرفته الخاصة والعامة كأعداد الركعات وتحريم بنت البنت فهل يعتبر إجماع العوام معهم فيه وجهان أصحهما لا يعتبر لأن الإجماع إنما يصح عن نظر واجتهاد والثاني يعم لاشتراكهم في العلم به‏.‏

قال سليم الرازي إجماع الخاصة هل يحتاج معهم فيه إلى إجماع العامة‏؟‏ فيه وجهان والصحيح أنه لا يحتاج فيه إليهم قال الجويني حكم المقلد حكم العامي في ذلك إذ لا واسطة بين المقلد والمجتهد‏.‏

فرع ‏[‏في إجماع العوام عند خلو الزمان عن مجتهد‏]‏

إجماع العوام عند خلو الزمان عن مجتهد عند من قال بجواز خلوه عنه هل يكون حجة أم لا‏.‏

فالقائلون باعتبارهم في إجماع مع وجود المجتهدين يقولون بأن إجماعهم حجة والقائلون بعدم اعتبارهم لا يقولون بأنه حجة وأما من قال بأن الزمان لا يخلو عن قائم بالحجة فلا يصح عنده هذا التقدير‏.‏

البحث الثامن عشر‏:‏ ‏[‏الإجماع المعتبر هو إجماع أهل كل فن‏]‏

الإجماع المعتبر في فنون العلم هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دون من عداهم، فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين ونحو ذلك ومن عدا أهل ذلك الفن هو في حكم العوام فمن اعتبرهم في الإجماع اعتبر غير أهل الفن ومن لا فلا وخالف في ذلك ابن جني فقال في كتاب الخصائص إنه لا حجة في إجماع النحاة‏.‏

قال الزركشي في البحر ولا خلاف في اعتبار قول المتكلم في الكلام والأصولي في الأصول وكل واحد يعتبر قوله إذا كان من أهل الاجتهاد في ذلك الفن وأما الأصولي الماهر المتصرف في الفقه ففي اعتبار خلافه في الفقه وجهان حكاهما الماوردي وذهب القاضي إلى أن خلافه معتبر‏.‏

قال الجويني وهو الحق وذهب معظم الأصوليين منهم أبو الحسن ابن القطان إلى أن خلافه لا يعتبر لأنه ليس من المفتين ولو وقعت له واقعة لزم أن يستفتي المفتي فيها قال إلكيا والحق قول الجمهور لأأن من أحكم الأصوليين فهو مجتهد فيهما قال الصيرفي في كتاب الدلائل إجماع العلماء لا مدخل لغيرهم فيه سواء المتكلم وغيره وهم الذين تلقنوا العلم من الصحابة وإن اختلفت آراؤهم وهم القائمون بعلم الفقه وأما من انفرد بالكلام لم يدخل في جملة العلماء فلا يعد خلافا على من ليس مثله وإن كانوا حذاقا بدقائق الكلام‏.‏

البحث التاسع عشر‏:‏ ‏[‏حكم المجتهد إذا خالف أهل الإجماع في عصره‏]‏

إذا خالف أهل الإجماع واحد من المجتهدين فقط، فذهب الجمهور إلى أنه لا يكون إجماعا ولا حجة قال الصيرفي ولا يقال لهذا شاذ لأن الشاذ من كان في الجملة ثم شذ كيف يكون محجوبا بهم ولا يقع اسم الإجماع إلا به قال إلا أن يجمعوا على شيء من جهة الحكاية فيلزمه قبول قولهم أما من جهة الاجتهاد فلا لأن الحق قد يكون معه‏.‏

وقال الغزالي والمذهب انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل ونقله الآمدي عن محمد بن جرير الطبري وأبي الحسين الخياط من معتزلة بغداد قال الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين والشرط أن يجمع جمهور تلك الطبقة ووجوههم ومعظمهم ولسنا نشترط قول جميعهم وكيف نشترط ذلك وربما يكون في أقطار الأرض من المجتهدين من لم نسمع به فإن السلف الصالح كانوا يعلمون ويتسترون بالعلم فربما كان الرجل قد أخذ الفقه الكثير ولا يعلم به جاره قال والدليل على هذا أن الصحابة لما استخلفوا أبا بكر انعقدت خلافته بإجماع الحاضرين ومعلوم أن من الصحابة من غاب قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض البلدان ومن حاضري المدينة من لم يحضر البيعة ولم يعتبر ذلك مع اتفاق الأكثرين قال الصفي الهندي والقائلون بأنه إجماع مرادهم أنه ظني لا قطعي واحتج ابن جرير على عدم اعتبار قول الأقل بارتكابه الشذوذ المنهي عنه وأجيب بأن الشذوذ المنهي عنه هو ما يشق عصا المسلمين لا في أحكام الاجتهاد‏.‏

وقال الأستاذ أبو إسحاق أن ابن جرير قد شذ عن الجماعة في هذه المسألة فينبغي أن لا يعتبر خلافه وقيل إنه حجة وليس بإجماع ورجحه ابن الحاجب فإنه قال لو قدر المخالف مع كثرة المجمعين لم يكن إجماعا قطعيا والظاهر أنه حجة لبعد أن يكون المرجح متمسك المخالف وقيل إن عدد الأقل أن بلغ عدد التواتر لم ينعقد إجماع غيرهم وإن كانوا دون عدد التواتر انعقد الإجماع دونهم كذا حكاه الآمدي قال القاضي أبو بكر أنه الذي يصح عن ابن جرير وقيل أتباع الأكثر أولى ويجوز خلافه حكاه الهندي‏.‏

وقيل أنه لا ينعقد إجماع مع مخالفة الاثنين الواحد حكاهما الزركشي في البحر وقيل إن استوعب الجماعة الاجتهاد فيما يخالفهم كان خلاف المجتهد معتدا بن كخلاف ابن عباس في العول وإن أنكروه لم يعتد بخلافه وبه قال أبو بكر الرازي أبو عبد الله الجرجاني من الحنفية قال شمس الأمة السرخسي إنه الصحيح‏.‏

البحث الموفي عشرين‏:‏ ‏[‏حكم الإجماع المنقول بطريق الآحاد‏]‏

الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة، وبه قال الماوردي وإمام الحرمين والآمدي ونقل عن الجمهور اشتراط عدد التواتر وحكى الرازي في المحصول عن الأكثر أنه ليس بحجة فقال الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة لأكثر الناس لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعا للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياسا على السنة ولأنا بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية فكذا القول في تفاصيله انتهى وأما عدد أهل الإجماع فقيل لا يشترط بلوغهم عدد التواتر خلافا للقاضي ونقل ابن برهان عن معظم العلماء أنه يجوز انحطاط عددهم عقلا عن عدد التواتر وعن طوائف من المتكلمين أنه لا يجوز عقلا وعلى القول بالجواز فهل يكون إجماعهم حجة أم لا‏؟‏

فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه حجة وهو قول الأستاذ أبي إسحاق وقال إمام الحرمين الجويني يجوز ولكن لا يكون إجماعهم حجة المجمعين عند عدد التواتر ما دام التكليف بالشريعة باقيا ومنهم من زعم أن ذلك وإن كان يتصور لكن يقطع بأن ما ذهب إليه دون عدد التواتر ليس سبيل المؤمنين لأن إخبارهم عن إيمانهم لا يفيد القطع فلا تحرم مخالفته ومنهم من زعم أنه وإن أمكن أن يعلم إيمانهم بالقرائن لا يشترط ذلك فيه بل يكفي فيه الظهور لكن الإجماع إنما يكون حجة لكونه كاشفا عن دليل قاطع وهو يوجب كونه متواترا وإلا لم يكن قاطعا فيما يقوم مقام نقله متواترا وهو الحكم بمقتضاه يجب أن يكون صادرا عن عدد التواتر وإلا لم يقطع بوجوده‏.‏

قال الأستاذ‏:‏ وإذا لم يبق في العصر إلا مجتهد واحد فقوله حجة كإجماع ويجوز أن يقال للواحد أمة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم كان أمة‏}‏ ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين‏.‏

قال الزركشي في البحر وبه جزم ابن سريج في كتاب الودائع فقال وحقيقة الإجماع هو القول بالحق ولو من واحد فهو إجماع وكذا إن حصل من اثنين أو ثلاثة والحجة على أن الواحد إجماع ما اتفق عليه الناس في أبي بكر رضي الله عنه لما امتنعت بنو حنيفة من الزكاة فكانت مطالبة أبي بكر لها حقا عند الكل وما انفرد لمطالبتها غيره قال هذا كلامه وخلاف إمام الحرمين فيه أولى وهو الظاهر لأن الإجماع لا يكون إلا من اثنين فصاعدا‏.‏

ونقل ابن القطان عن أبي هريرة أنه حجة قال إلكيا المسألة مبنية على تصور اشتمال العصر على المجتهد الواحد والصحيح تصوره وإذا قلنا به ففي انعقاد الإجماع بمجرد قوله خلاف‏.‏

وبه قال الأستاذ أبو إسحاق قال والذي حمله على ذلك أنه لم يكن لاختصاص الإجماع بمحل معنى يدل عليه فسوى بين العدد والفرد وأما المحققون سواء فإنهم يعبرون العدد ثم يقولون المعتبر عدد التواتر فإذا مستند الإجماع مستند إلى طرد العادة بتوبيخ من يخالف العصر الأول وهو يستدعي وفور عدد من الأولين وهذا لا يتحقق فيما إذا كان في العصر إلا مجتهد واحد فإنه لا يظهر فيه استيعاب مدارك الاجتهاد‏.‏

خاتمة

قول القائل لا أعلم خلافا بين أهل العلم في كذا قال الصيرفي لا يكون إجماعا لجواز الاختلاف وكذا قال ابن حزم في الأحكام وقال في كتاب الإعراب أن الشافعي نص عليه في الرسالة وكذلك أحمد بن حنبل وقال ابن القطان قول القائل لا أعلم خلافا إن كان من أهل العلم فهو حجة وإن لم يكن من الذين كشفوا الإجماع والاختلاف فليس بحجة وقال الماوردي إذا قال‏:‏ لا أعرف بينهم خلافا فإن لم يكن من أهل الاجتهاد وممن أحاط بالإجماع والاختلاف لم يثبت الإجماع بقوله وإن كان من أهل الاجتهاد فاختلف أصحابنا فأثبت الإجماع بقوله وإن كان من أهل الاجتهاد وزعم قوم أن العالم إذا قال لا أعلم خلافا فهو إجماع وهو قول فاسد قال ذلك محمد بن نصر المروزي فإنا لا نعلم أحدا منه لأقاويل أهل العلم ولكن فوق كل ذي علم عليم وقد قال الشافعي في زكاة البقر لا أعلم خلافا في أنه ليس في أقل من ثلاثين منها تبيع والخلاف في ذلك مشهور فإن قوما يرون الزكاة على خمس كزكاة الإبل وقال مالك في موطئه وقد ذكر الحكم برد اليمين وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الناس ولا بلد من البلدان والخلاف فيه شهير وكان عثمان رضي الله عنه لا يرى رد اليمين ويقضي بالنكول وكذلك ابن عباس ومن التابعين الحكم وغيره وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وهم كانوا القضاة في ذلك الوقت فإذا كان مثل من ذكرنا يخفي عليه الخلاف فما ظنك بغيره‏؟‏

المقصد الرابع في الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمال والتبيين والظاهر والمؤول والمنطوق والمفهوم والناسخ والمنسوخ

وسنجعل لكم من هذه بابا مستقلا إن شاء الله ففي الأوامر والنواهي بابان‏:‏

الباب الأول في مباحث الأمر‏:‏

والباب الثاني في مباحث النهي‏.‏

الباب الأول في مباحث الأمر

أما الباب الأول ففيه فصول وهي أحد عشر فصلا‏.‏

الفصل الأول في تعريف لفظ الأمر

قال في المحصول‏:‏ اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص واختلفوا في كونه حقيقة في غيره فزعم بعض الفقهاء أنه حقيقة في الفعل أيضا والجمهور على أنه مجاز فيه وزعم أبو الحسين أنه مشترك بين القول المخصوص وبين الشيء وبين الصفة وبين الشأن والطريق والمختار أنه حقيقة في القول المخصوص فقط إنا أجمعنا على أنه حقيقة في القول المخصوص فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك انتهى ويجاب عنه بأن مجرد الإجماع على كون أحد المعاني حقيقة لا ينفي حقيقة ما عداه والأولى أن يقال أن الذي سبق إلى الفهم من لفظ ألف ميم راء عند الإطلاق هو القول المخصوص والسبق إلى الفهم دليل الحقيقة والأصل عدم الاشتراك ولو كان مشتركا لتبادر إلى الفهم جميع ما هو مشترك فيه ولو كان متواطئا لم يفهم منه القول المخصوص على انفراده واستدلاله على أنه حقيقة في القول المخصوص بأنه لو كان حقيقة في الفعل لاطرد ويسمى الأكل أمرا والشرب أمرا ولكان يشتق للفاعل اسم الأمر وليس كذلك لأن من قام أو قعد لا يسمى آمرا وأيضا الأمر له لوازم ولم يوجد منها شيء في الفعل فوجب أن لا يكون الأمر حقيقة في الفعل وأيضا يصح نفي الأمر عن الفعل فيقال ما أمر به ولكن فعله وأجيب بمنع كون من شأن الحقيقة الاطراد وبمنع لزوم الاشتقاق في كل الحقائق وبمنع عدم وجود شيء من اللوازم في الفعل وبمنع تجويزهم لنفيه مطلقا واستدل القائلون بأنه حقيقة في الفعل بوجهين الأول‏:‏ أن أهل اللغة يستعملون لفظ الأمر في الفعل وظاهر الاستعمال الحقيقة ومن ذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور‏}‏ والمراد منه هنا العجائب التي أظهرها الله عز وجل وقوله‏:‏ ‏{‏أتعجبين من أمر الله‏}‏ أي من فعله وقوله‏:‏ ‏{‏وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تجري في البحر بأمره‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مسخرات بأمره‏}‏ ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

لأمر ما يسود من يسود

وقول العرب في أمثالها المضروبة «لأمر ما جدع قصير أنفه» والأصل في الإطلاق الحقيقة‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه قد خولف بين جمع الأمر بمعنى القول فقيل في الأول أوامر وفي الثاني أمور والاشتقاق علامة الحقيقة وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم استعمال اللفظ في الفعل من حيث أنه فعل أما قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاء أمرنا‏}‏ فلا مانع من أن يراد منه القول أو الشأن وإنما يطلق اسم الأمر على الفعل لعموم كونه شأنا لا لخصوص كونه فعلا وكذا الجواب عن الآية الثانية وأما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏ فلم لا يجوز أن يكون المراد هو القول بل الأظهر ذلك لما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوا أمر فرعون‏}‏ أي أطاعوه فيما أمرهم به سلمنا أنه ليس المراد القول فلم لا يجوز أن يكون المراد شأنه وطريقته وأما قوله‏:‏ ‏{‏وما أمرنا إلا واحدة‏}‏ فلم لا يجوز إجراؤه على الظاهر ويكون معناه أن من شأنه سبحانه أنه إذا أراد شيئا وقع كلمح بالبصر وأما قوله‏:‏ ‏{‏تجري في البحر بأمره‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مسخرات بأمره‏}‏ فلا يجوز حمل الأمر فيهما على الفعل لأن الجري والتسخير إنما حصل بقدرته لا بفعله فوجب حمله على الشأن والطريق وهكذا قول الشاعر المذكور والمثل المشهور وأما قولهم أن الأصل الحقيقة فمعارض بأن الأصل عدم الاشتراك وأجيب عن الوجه الثاني بأنه يجوز أن يكون الأمور جمع الأمر بمعنى الشأن لا بمعنى الفعل سلمنا لكن لا نسلم أن الجمع من علامات الحقيقة واستدل أبو الحسين بقوله بأن من قال هذا أمر لم يدر السامع أي هذه الأمور أراد فإذا قال هذا أمر بالفعل أوامر فلان مستقيم أو تحرك هذا الجسم لأمر وجاء زيد لأمر عقل السامع من الأول القول ومن الثاني الشأن ومن الثالث أن الجسم تحرك لشيء ومن الرابع أن زيدا جاء لغرض من الأغراض وتوقف الذهن عند السماع يدل على أنه متردد بين الكل وأجيب بأن هذا التردد ممنوع بل لا يفهم ما عدا القول إلا بقرينة مانعة من حمل اللفظ عليه كما إذا استعمل في موضع لا يليق بالقول‏.‏

الفصل الثاني‏:‏ ‏[‏في حد الأمر بمعنى القول‏]‏

اختلف في حد الأمر بمعنى القول فقال القاضي أبو بكر وارتضاه جماعة من أهل الأصول أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به قال في المحصول وهذا خطأ لوجهين أما أولا فلأن لفظي المأمور والمأمور به مشتقان من الأمر فيمتنع تعريفهما إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور وأما ثانيا فلأن الطاعة عند أصحابنا موافقة الأمر وعند المعتزلة موافقة الإرادة فالطاعة على قول أصحابنا لا يمكن تعريفها إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بها لزم الدور وقال أكثر المعتزلة في حده‏:‏ إنه قول القائل لمن دونه إفعل أو ما يقوم مقامه قال في المحصول وهذا خطأ من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أنا لو قدرنا أن الواضع ما وضع لفظه إفعل لشيء أصلا حتى كانت هذه اللفظة من المهملات ففي تلك الحالة لو تلفظ الإنسان بها مع دونه لا يقال فيه أنه أمر ولو أنها صدرت عن النائم أو الساهي أو على سبيل انطلاق اللسان بها إتفاقا أو على سبيل الحكاية يقال فيه أنه أمر ولو قدرنا أن الواضع وضع بإزاء معنى لفظ إفعل وبإزاء معنى لفظ فعل لكان المتكلم بلفظ فعل آمرا وبلفظ إفعل مخبرا فعلمنا أن تحديد ماهية الأمر بالصيغة المخصوصة باطل‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن تحديد ماهية الأمر من حيث هو أمر وهي حقيقة لا تختلف باختلاف اللغات فإن التركي قد يأمر وينهي وما ذكروه لا يتناول الألفاظ العربية فإن قلت قولنا أو ما يقوم مقامه احتراز عن هذين الإشكالين الذين ذكرتهما قلت قوله أو ما يقوم مقامه يعني به كونه قائما مقامه في الدلالة على كونه طلبا للفعل أو يعني به شيئا آخر فإن كان المراد هو الثاني فلابد من بيانه وإن كان المراد هو الأول صار معنى حد الأمر هو قول القائل لمن دونه إفعل أو ما يقوم مقامه في الدلالة على طلب الفعل كافيا وحينئذ يقع التعرض بخصوص صيغة إفعل ضائعا‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ سنبين أن الرتبة غير معتبرة وإذا ثبت فساد هذين الحدثين فنقول الصحيح أن يقال الأمر طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء ومن الناس من لم يعتبر هذا القيد الأخير انتهى ولا يخفاك أن ما أجاب به من هذه الوجوه الثلاثة لا يرد على ذلك الحد أما الوجه الأول فتقدير الإهمال أو الصدور لا عن قصد ليس مما يقتضي النقض به لخروجه عن الكلام المعتبر عند أهل اللغة وأما النقض بغير لغة العرب فغير وارد فإن مراد من حد الأمر بذلك الحد ليس إلا باعتبار ما يقتضيه لغة العرب لا غيرها وأما عدم اعتبار الرتبة فمصادرة على المطلوب ويرد على الحد الذي ارتضاه آخرا وقال إنه الصحيح النهي فإن طلب الفعل بالقول لأن الكف فعل ويرد على قيد الاستعلاء قوله تعالى حكاية عن فرعون ‏{‏ماذا تأمرون‏}‏ والأصل الحقيقة وقد أورد على الحد الذي ذكرته المعتزلة أنه يرد على طرده قول لقائل لمن دونه إفعل إذا صدر عن مبلغ لأمر الغير أو حاك له ويرد على عكسه إفعل إذا صدر من الأدنى على سبيل الاستعلاء ولذلك يذم بأنه أمر من هو أعلى منه وأجيب عن الإيراد الأول بأن المراد قول إفعل مرادا به ما يتبادر منه عند الإطلاق وعن الثاني بأنه ليس قولا لغيره إفعل وعن الثالث بمنع كونه أمرا عندهم واعترض عليه بأنه تعريف الأمر بالأمر ولا يعرف الشيء بنفسه وإن أسقط هذا القيد بقي صيغة إفعل مجردة فيلزم تجرده مطلقا حتى عما يؤكد كقوله وأجيب عنه بأن المراد القرائن الصارفة عما يتبادر منها إلى الفهم عند إطلاقها وقيل في حده هو اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء واعترض على عكسه بأكفف وانته واترك وذر فإنها أوامر لا يصدق عليها الحد لعدم اقتضاء الفعل غير الكف فيها واعترض على طرده بلا تترك ولا تنته ونحوهما فإنها نواة ويصدق عليها الحد وأجيب بأن المحدود هو النفسي فيلتزم أن معنى لا تترك معنى الأمر النفسي ومعنى اكفف وذر النهي فاطرد وانعكس وقيل في حده هو صيغة افعل بإرادات ثلاث وجود اللفظ ودلالتها على الأمر والامتثال واحترز بالأولى عن النائم إذ يصدر عنه صيغة إفعل من غير إرادة وجود اللفظ وبالثانية عن التهديد والتخيير والإكرام والإهانة ونحوها وبالثالثة عن الصيغة التي تصدر عن المبلغ والحاكي فإنه لا يريد الامتثال واعترض عليه بأنه إن أريد بالأمر المحدود المعنى النفسي أفسد الحد جنسه فإن المعنى ليس بصيغة وأجيب بأن المراد المحدود اللفظ وبما في الحد المعنى الذي هو الطالب واستعمل المشترك الذي هو لفظ الأمر في معنييه اللذين هما الصيغة المعلومة والطلب بالقرينة العقلية وقيل في حده أنه أراد العقل واعترض عليه بأنه غير جامع لثبوت الأمر ولا إرادة كما في أمر السيد لعبده بحضرة من توعد السيد على ضربه لعبده بالإهلاك إن ظهر أنه لا يخالف أمر سيده والسيد يدعي مخالفة العبد في أمره ليدفع عن نفسه الإهلاك فإنه يأمر عبده بحضرة المتوعد له ليعصيه ويشاهد المتوعد عصيانه ويخلص من الهلاك فهاهنا قد أمر وإلا لم يظهر عذره وهو مخالف الأمر ولا يريد منه العمل لا أنه لا يريد ما يفضي إلى هلاكه وإلا كان مريدا هلاك نفسه وإنه محال‏.‏

وأجيب عنه بأنه مثله يجيء في الطلب لأن العاقل لا يطلب ما يستلزم هلاكه وإلا كان طلبا لهلاكه ودفع بالمنع لجواز أن يطلب العاقل الهلاك لغرض إذا علم عدم وقوعه ورد هذا الدفع بأن ذلك إنما يصح في اللفظي أما النفسي فالطلب النفسي كالإرادة النفسية فلا يطلب الهلاك بقلبه كما لا يريده‏.‏

وقال الآمدي لو كان الأمر إرادة لوقعت المأمورات بمجرد الأمر لأن الإرادة صفة تخصص المقدور بوقت وجوده فوجودها فرع وجود مقدور مخصص والثاني باطل لأن إيمان الكفار المعلوم عدمه عند الله تعالى لا شك أنه مأمور به فيلزم أن يكون مرادا ويستلزم وجوده مع أنه محال‏.‏

وأجيب عن هذا بأن لا يلزم من حد الأمر بإرادة الفعل لأنه من المعتزلة والإرادة عندهم بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ميل يتبع اعتقاد النفع أو دفع الضرر بالنسبة إليه سبحانه وتعالى العلم بما في الفعل من المصلحة إذا تقرر لك ما ذكرنا وعرفت ما فيه فاعلم أن الأولى بالأصول تعريف الأمر الصيفي لأن بحث هذا العلم عن الأدلة السمعية وهي الألفاظ الموصلة من حيث المعلوم بأحوالها من عموم وخصوص وغيرهما إلى قدرة إثبات الأحكام والأمر الصيغي في اصطلاح أهل العربية صيغته المعلومة سواء كانت على سبيل الاستعلاء أو لا وعند أهل اللغة في صيغته المعلومة المستعملة في الطلب الجازم مع الاستعلاء هذا باعتبار لفظ الأمر الذي هو ألف ميم را بخلاف فعل الأمر نحو اضرب فإنه لا يشترط فيه ما ذكر بل يصدق مع العلو وعدمه وعلى هذا أكثر أهل الأصول ولم يعتبر الأشعري قيد العلو وتابعه أكثر الشافعية واعتبر العلو المعتزلة جميعا إلا أبا الحسين منهم ووافقهم أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني من الشافعية‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ ‏[‏في صيغة افعل وما في معناها‏]‏

اختلف أهل العلم في صيغة افعل وما في معناه هل هي حقيقة في الوجوب أو فيه مع غيره أو في غيره فذهب الجمهور إلى أنها حقيقة في الوجوب فقط وصححه ابن الحاجب والبيضاوي قال الرازي وهو الحق وذكر الجويني أنه مذهب الشافعي قيل وهو الذي أملاه الأشعري على أصحابه وقال أبو هاشم وعامة المعتزلة وجماعة من الفقهاء وهو رواية الشافعي أنها حقيقة الندب وقال الأشعري والقاضي بالوقف فقيل أنهما توقفا في أنه موضوع للوجوب والندب وقيل توقفا بأن قالا لا ندري بما هو حقيقة فيه أصلا‏.‏

وحكى السعد في التلويح عن الغزالي وجماعة من المحققين أنهم ذهبوا إلى الوقف في تعيين المعنى الموضوع له حقيقة وحكى أيضا عن ابن سريج الوقف في تعيين المعنى المراد عند الاستعمال لا في تعيين الموضوع له عنده لأنه موضوع عنده بالاشتراك للوجوب والندب والإباحة والتهديد وقيل أنها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكا لفظيا وهو قول الشافعي في رواية عنه وقيل إنها مشتركة اشتراكا لفظيا بين الوجوب والندب والإباحة وقيل إنها موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب‏:‏ أي ترجيح الفعل على الترك ونسبه شارح التحرير إلى أبي منصور الماتريدي ومشايخ سمرقند وقيل إنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب والإباحة وهو الإذن برفع الحرج عن الفعل‏.‏

وبه قال المرتضى من الشيعة وقال جمهور الشيعة إنها مشتركة بين الثلاثة المذكورة والتهديد استدل القائلون بأنها حقيقة في الوجوب لغة وشرعا كما ذهب إليه الجمهور أو شرعا فقط كما ذهب إليه البلخي وأبو عبد الله البصري والجويني وأبو طالب بدليل العقل والنقل أما العقل فإنا نعلم من أهل اللغة قبل ورود الشرع أنهم أطبقوا على ذم عبد لم يمتثل أمر سيده وأنهم يصفونه بالعصيان ولا يذم ويوصف بالعصيان إلا من كان تاركا لواجب عليه وأما المنقول فقد تكرر استدلال السلف بهذه الصيغة مع تجردها عنه القرائن على الوجوب وشاع ذلك وذاع بلا نكير فأوجب العلم العادي باتفاقهم عليه واعترض بأن استدلالهم بها على الوجوب كان في صيغ من الأمر محتفة بقرائن الوجوب بدليل استدلالهم بكثير منها على الندب وأجيب بأن استدلالهم بما استدلوا منها على الندب إنما كان بقرائن صارفة عن المعنى الحقيقي وهو الوجوب معينة للمعنى المجازي وهو الندب علمنا ذلك باستقراء الواقع منهم في الصيغ المنسوب إليها الوجوب والصيغ المنسوب إليها الندب في الكتاب والسنة وعلمنا بالتتبع أن فهم الوجوب لا يحتاج إلى قرينة لتبادره إلى الذهن بخلاف فهم الندب فإنه يحتاج إليها واعترض على هذا الدليل أيضا بأنه استدلال بالدليل الظني في الأصول لأنه إجماع سكوتي مختلف في حجيته كما تقدم ولا يستدل بالأدلة الظنية في الأصول‏.‏

وأجيب بأنه لو سلم كون ذلك الدليل ظنيا لكفى في الأصول وإلا تعذر العمل بأكثر الظواهر لأنها لا تفيد إلا الظن والقطع لا سبيل إليه كما لا يخفى على من تتبع مسائل الأصول وأيضا نحن نقطع بتبادر الوجوب من الأوامر المجردة عن القرائن الصارفة وذلك يوجب القطع به لغة وشرعا واستدلوا أيضا بقوله تعالى لإبليس‏:‏ ‏{‏ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك‏}‏ وليس المراد منه الاستفهام بالاتفاق بل الذم وأنه لا عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به له في ضمن قوله سبحانه للملائكة‏:‏ ‏{‏اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس‏}‏ فدل ذلك على أن معنى الأمر المجرد عن القرائن الوجوب ولو لم يكن دالا على الوجوب لما ذمه الله سبحانه وتعالى على الترك ولكان لإبليس أن يقول إنك ألزمتني السجود واستدلوا أيضا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون‏}‏ فذمهم على ترك فعل ما قيل لهم افعلوه ولو كان الأمر يفيد الندب لما حسن هذا الكلام كما أنه لو قال لهم الأولى أن تفعلوا ويجوز لكم تركه فإنه ليس له أن يذمهم على تركه واعترض على هذا بأنه سبحانه وتعالى إنما ذمهم لأنهم لم يعتقدوا حقيقة الأمر لا لأنهم تركوا المأمور به والدليل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ وأيضا فصيغة افعل قد تفيد الوجوب عند اقتران بعض القرائن بها فلعله سحانه وتعالى إنما ذمهم لأنه قد كان قد وجدت قرينة دالة على الوجوب وأجيب عن الاعتراض الأول بأن المكذبين في قوله‏:‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ إما أن يكونوا هم الذين تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا أو غيرهم فإن كان الأول جاز أن يستحقوا الذم بترك الركوع والويل بسبب التكذيب وإن يكن الثاني لم يكن إثبات الويل للإنسان بسبب التكذيب منافيا لثبوت الذم لإنسان آخر بسبب تركه للمأمور به وأجيب عن الاعتراض الثاني بأن الله سبحانه وتعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا فدل على أن منشأ الذم هذا القدر لا القرينة واستدلوا أيضا بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره‏}‏ أي يعرضون عنه بترك مقتضاه ‏{‏أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم‏}‏ لأنه رتب على ترك مقتضى أمره إصابة الفتنة في الدنيا أو العذاب الأليم في الآخرة فأفادت الآية بما تقتضيه إضافة الجنس من العموم أن لفظ الأمر يفيد الوجوب شرعا مع تجرده عن القرائن إذ لولا ذلك لقبح التحذير واستدلوا أيضا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفعصيت أمري‏}‏ أي تركت مقتضاه فدل على أن تارك المأمور به عاص وكل عاص متوعد وهو دليل الوجوب لهذه الآية ولقوله ‏{‏ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم‏}‏ والأمر الذي أمره به هو قوله‏:‏ ‏{‏اخلفني في قومي‏}‏ وهو أمر مجرد عن القرائن‏.‏

واعترض على هذا بأن السياق لا يفيد ذلك وأجيب بمنع كونه لا يفيد ذلك واستدلوا أيضا بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة‏}‏ والقضاء بمعنى الحكم وأمرا مصدرا من غير لفظة أو حال أو تمييز ولا يصح أن يكون المراد بالقضاء ما هو المراد في قوله‏:‏ ‏{‏فقضاهن سبع سماوات‏}‏ لأن عطف الرسول عليه يمنع ذلك فتعين أن المراد الحكم والمراد من الأمر القول لا الفعل واستدلوا أيضا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏}‏ والمراد منه الأمر حقيقة وليس بمجاز عن سرعة الإيجاد كما قيل وعلى هذا يكون الوجود مرادا بهذا الأمر أي أراد الله أنه كلما وجد الأمر يوجد المأمور به فكذا في كل أمر من الله تعالى ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدلوا أيضا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره فهاهنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة فهذا يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة والإجماع قائم على أنه مندوب فلو كان المندوب مأمورا به لكان الأمر قائما عند كل صلاة فلما لم يوجد الأمر علمنا أن المندوب غير مأمور به‏.‏

واعترض على هذا الاستدلال بأنه لا يجوز أن يقال إن مراده لأمرتهم على وجه يقتضي الوجوب بقرائن تدل عليه لا مجرد الأمر ورد بأن كلمة لولا دخلت على الأمر فوجب أن لا يكون الأمر حاصلا والندب حاصل فوجب أن لا يكون الندب أمرا والإلزام التناقض والمراد مجرد الأمر واستدلوا أيضا بذلك فقال لا إنما أنا شافع فنفى صلى الله عليه وسلم الأمر منه مع ثبوت الشفاعة الدالة على الندب وذلك يدل على أن المندوب غير مأمور به وإذا كان كذلك وجب أن لا يتناول الأمر الندب واستدلوا أيضا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستدلون بالأوامر على الوجوب ولم يظهر مخالف منهم ولا من غيرهم في ذلك فكان إجماعا‏.‏

واستدلوا أيضا بأن لفظ افعل إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معا أو في غيرهما والأقسام الثلاثة الآخرة باطلة فتعين الأول لأنه لو كان للندب فقط لما كان الواجب مأمورا به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط ولو كان لما لزم الجمع بين الراجح فعله مع جواز تركه وبين الراجح فعله مع المنع من تركه والجمع بينهما محال ولو كان حقيقة في غيرهما لزم أن يكون الواجب والمندوب غير مأمور بهما وأن يكون الأمر حقيقة فيما لا ترجح فيه وهو باطل ومعلوم أن الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم‏.‏

وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعا من الترك‏.‏

واستدل القائلون بأنها حقيقة في الندب بما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة‏:‏ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما هلك الذين من قبلكم من كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» فرد ذلك إلى مشيئتنا وهو معنى الندب وأجيب عن هذا بأنه دليل للقائلين بالوجوب لا للقائلين بالندب لأن ما لا نستطيعه لا يجب علينا وإنما يجب علينا ما نستطيعه والمندوب لا حرج في تركه مع الاستطاعة‏.‏

واحتجوا أيضا بأنه لا فرق بين قول القائل لعبده اسقني وبين قوله أريد أن تسقيني فليس إلا مجرد الإخبار بكونه مريدا للفعل وليس فيه طلب للفعل وهذا أشق ما احتجوا به مع كونه مدفوعا بما سمعت وقد احتجوا بغير ذلك مما لا يفيد شيئا واحتج القائلون بأن صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب والندب أو بينهما وبين الإباحة اشتراكا لفظيا بأنه قد ثبت إطلاقها عليهما أو عليها والأصل في الإطلاق الحقيقة وأجيب بما تقدم من أن المجاز أولى من الاشتراك وأيضا كان يلزم أن تكون الصيغة حقيقة في جميع معاني الأمر التي سيأتي بيانها لأنه قد أطلق عليها ولو نادرا ولا قائل بذلك‏.‏

واحتج القائلون بأن الصيغة موضوعة لمطلق الطلب بأنه ثبت الرجحان في المندوب كما ثبت في الواجب وجعلها للوجوب بخصوصه لا دليل عليه وأجيب بأنه قد دل الدليل عليه كما تقدم في أدلة القائلين بالوجوب وأيضا ما ذكروه هو إثبات اللغة بلوازم الماهيات وذلك أنهم جعلوا الرجحان لازما للوجوب والندب وجعلوا صيغة الأمر لما بهذا الاعتبار واللغة لا تثبت بذلك واحتج القائلون بالوقف بأنه لو ثبت تعيين الصيغة لمعنى من المعاني لثبت بدليل ولا دليل‏.‏

وأجيب بأن الدليل قد دل على تعيينها باعتبار المعنى الحقيقي للوجوب كما قدمنا وإذا تقرر لك هذا عرفت أن الراجح ما ذهب إليه القائلون بأنها حقيقة في الوجوب فلا تكون لغيره من المعاني إلا بقرينة لما ذكرناه من الأدلة ومن أنكر استحقاق العبد المخالف لأمر سيده للذم وأنه يطلق عليه بمجرد هذه المخالفة اسم العصيان فهو مكابر ومباهت فهذا يقطع النزاع باعتبار العقل وأما باعتبار ما ورد في الشرع وما ورد من حمل أهله للصيغ المطلقة من الأوامر على الوجوب ففيما ذكرناه سابقا ما يغني عن التطويل ولم يأت من خالف هذا بشيء يعد به أصلا واعلم أن هذا النزاع إنما هو في المعنى الحقيقي للصيغة كما عرفت وأم مجرد استعمالها فقد تستعمل في معان كثيرة‏.‏

قال الرازي في المحصول‏:‏ قال الأصوليون صيغة افعل مستعملة في خمسة عشر وجها للإيجاب كقوله‏:‏ ‏{‏أقيموا الصلاة‏}‏ وللندب كقوله‏:‏ ‏{‏فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا‏}‏ ويقرب من التأديب كقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس‏:‏ «كل مما يليك» فإن الأدب مندوب إليه وإن كان قد جعله بعضهم قسما مغايرا للمندوب وللإرشاد كقوله‏:‏ ‏{‏فاستشهدوا‏}‏ فاكتبوا والفرق بين الندب والإرشاد أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد لمنافع الدنيا فإنه لا ينتقص الثواب بترك الاستشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله وللإباحة ككلوا واشربوا وللتهديد كاعملوا ما شئتم ‏{‏واستفزز من استطعت‏}‏ ويقرب منه الإنذار كقوله‏:‏ ‏{‏قل تمتعوا‏}‏ وإن كان قد جعلوه قسما آخر وللامتنان ‏{‏فكلوا مما رزقكم الله‏}‏ وللإكرام ‏{‏ادخلوها بسلام آمنين‏}‏ وللتسخير ‏{‏كونوا قردة‏}‏ وللتعجيز ‏{‏فاتوا بسورة من مثله‏}‏ وللإهانة ‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ وللتسوية ‏{‏اصبروا أو لا تصبروا‏}‏ وللدعاء ‏{‏رب اغفر لي‏}‏ وللتمني كقوله‏:‏- ألا أيها الليل الطويل ألا انجل- وللاحتقار ‏{‏ألقوا ما أنتم ملقون‏}‏ وللتكوين ‏{‏كن فيكون‏}‏ انتهى فهذه خمسة عشر معنى ومن جعل التأديب والإنذار معنيين مستقلين جعلها سبعة عشر معنى وجعل بعضهم من المعاني الأذن نحو‏:‏ ‏{‏كلوا من الطيبات‏}‏ والخبر نحو‏:‏ ‏{‏فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا‏}‏ والتفويض نحو‏:‏ ‏{‏فاقض ما أنت قاض‏}‏ والمشورة كقوله‏:‏ ‏{‏فانظر ماذا ترى‏}‏ والاعتبار نحو‏:‏ ‏{‏انظروا إلى ثمره إذا أثمر‏}‏ والتكذيب نحو‏:‏ ‏{‏قل هاتوا برهانكم‏}‏ والالتماس كقولك لنظيرك‏:‏ افعل والتلهيف نحو‏:‏ ‏{‏موتوا بغيظكم‏}‏ والتصبير نحو‏:‏ ‏{‏فذرهم يخوضوا ويلعبوا‏}‏ فتكون جملة المعاني ستة وعشرين معنى‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ ‏[‏التكرار وعلاقته بصيغة الأمر‏]‏

ذهب جماعة من المحققين إلى أن صيغة الأمر باعتبار الهيئة الخاصة موضوعة لمطلق الطلب من غير إشعار بالوحدة والكثرة واختاره الحنفية والآمدي وابن الحاجب والجويني والبيضاوي‏:‏ قال السبكي وأراه رأى أكثر أصحابنا يعني الشافعية واختاره أيضا المعتزلة وأبو الحسين البصري وأبو الحسن الكرخي قالوا جميعا إلا أنه لا يمكن تحصيل المأمور به بأقل من مرة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به لا أن الأمر يدل عليها بذاته‏.‏

وقال جماعة أن صيغة الأمر تقتضي المرة الواحدة لفظا وعزاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إلى أكثر الشافعية وقال إنه مقتضى كلام الشافعي وإنه الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء وبه قال أبو علي الجبائي وأبو هاشم وأبو عبد الله البصري وجماعة من قدماء الحنفية وقال جماعة أنها تدل على التكرار مدة العمر مع الإمكان‏.‏

وبه قال أبو إسحاق الشيرازي والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وإنما قيدوه بالإمكان لتخرج أوقات ضروريات الإنسان وقال الغزالي في المستصفى أن مرادهم من التكرار العموم‏.‏

قال أبو زرعة يحتمل أنهم أرادوا التكرار المستوعب لزمان العمر وهو كذلك عند القائل لكن بشرط الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة والنوم وضروريات الإنسان ويحتمل أنهم أرادوا ما ذهب إليه بعض الحنفية والشافعية من أن الصيغة المقتضية للتكرار هي المعلقة على شرط أو صفة وقيل إنها للمرة وتحتمل التكرار وهذا مروي عن الشافعي وقيل بالوقف واختلف في تفسير معنى هذا الوقف فقيل المراد منه لا ندري أوضع للمرة أو للتكرار أو للمطلق وقيل المراد منه لا يدري مراد المتكلم للاشتراك بينها‏.‏

وبه قال القاضي أبو بكر وجماعة وروي عن الجويني احتج الأولون بإطباق أهل العربية على هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص رمان وخصوص المطلوب من قيام وقعود وغيرهما إنما هو من المادة ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل فحصل من مجموع الهيئة والمادة أن تمام مدلول الصيغة هو طلب الفعل فقط والبراءة بالخروج عن عهدة الأمر تحصل بفعل المأمور به مرة واحدة لتحقق ما هو المطلوب بإدخاله في الوجود بها ولهذا يندفع ما احتج به من قال إنها للمرة حيث قال إن الامتثال يحصل بالمرة فيكون لها وذلك لأن حصوله بها لا يستدعي اعتبارها جزءا من مدلول الأمر لأن ذلك حاصل على تقدير الإطلاق كما عرفت واحتج الأولون أيضا بأن مدلول الصيغة طلب حقيقة الفعل والمرة والتكرار خارجان عن حقيقة فوجب أن يحصل الامتثال به في أيهما وجد ولا يتقيد بأحدهما واعترض على هذا بأنه استدلال بمحل النزاع فإن منهم من يقول هي الحقيقة المقيدة بالمرة ومنهم من يقول هي الحقيقة المقيدة بالتكرار‏.‏

واحتجوا أيضا بأن المرة والتكرار من صفات الفعل كالقلة الكثرة ولا دلالة للموصوف على الصفة المعينة منهما واعترض على هذا بأنه إنما يقتضي انتفاء دلالة المادة على المرة والتكرار والكلام في الصيغة هل هي تدل على شيء منهما أم لا‏؟‏ واحتمال الصيغة لهما لا يمنع ظهور أحدهما والمدعي إنما هو للدلالة ظاهرا لا نصا احتج القائلون بالتكرار أن تكرر المطلوب في النهي فعم الأزمان فوجب التكرار في الأمر لأنهما طلب وأجيب بأن هذا قياس في اللغة وقد تقرر بطلانه وأجيب أيضا بالفرق بينهما لأن النهي لطلب الترك ولا يتحقق إلا بالترك في كل الأوقات والأمر لطلب الإتيان بالفعل وهو يتحقق بوجوه مرة واعترض على هذا بأنه مصادرة على المطلوب لأن كون إثباته يحصل بمرة هو عين النزاع إذ للمخالف أن يقول هو للتكرار لا للمرة‏.‏

وأجيب عن أصل التكرار بأنه يستلزم المنع من فعل غير المأمور به لأنه يستغرق جميع الأوقات ومن ضروريات البشر أنه يشغله شأن عن شأن آخر فيتعطل عما سواه مما هو مأمور به وعن مصالح دينه ودنياه بخلاف النهي فإن دوام الترك لا يشغله عن شيء من الأفعال واعترض على هذا بأن النزاع إنما هو في مدلول الصيغة هل تدل على التكرار أم لا‏؟‏ وإرادة المتكلم التكرار لا تستلزم كون التكرار مدلولا للصيغة فيجوز أن يكون اللفظ دالا على التكرار لكن المتكلم لا تتعلق به إرادته‏.‏

واستدل القائلون بالتكرار أيضا بأن الأمر نهى عن أضداده وهي كل ما لا يجتمع مع المأمور به ومنها تركه وهو أي النهي يمنع من المنهي عنه دائما فيتكرر الأمر في المأمور به إذا لو لم يتكرر واكتفى بفعله مرة في وقت واحد لم يمنع من أضداده في سائر الأوقات وأجيب بأن تكرار النهي الذي تضمنه الأمر فرع تكرر الأمر فإثبات تكرر الأمر بتكرر النهي دور لتوقف كل من التكرارين على الآخر واحتج من قال بأنه يتكرر إذا كان معلقا على شرط أو صفة بأنه تكرر في نحو قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏}‏‏.‏

وأجيب بأن الشرط هنا علة فيتكرر المأمور به بتكررها اتفاقا ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته والنزاع إنما هو دلالة الصيغة مجردة قال الرازي في المحصول أن صيغة افعل لطلب إدخال ماهية المصدر في الوجود فوجب أن لا تدل على التكرار بيان الأولى أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء على التكرار كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقيموا الصلاة‏}‏ ومنها ما جاء على غير التكرار كما في الحج وفي حق العباد أيضا قد لا يفيد التكرار فإن السيد إذا أمر عبده بدخول الدار أو بشراء اللحم لم يعقل منه التكرار ولو ذمه السيد على ترك التكرار للأمة العقلاء ولو كرر العبد الدخول حسن من السيد أن يلومه ويقول له إني أمرتك بالدخول وقد دخلت فيكفي ذلك وما أمرناك بتكرار الدخول وقد يفيد التكرار فإنه إذا قال احفظ دابتي فحفظها ثم أطلقها يذم إذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل فلابد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين وما ذلك إلا طلب إدخال ماهية المصدر في الوجوه وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يدل على التكرار لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام والأمر لا دلالة فيه ألبتة على التكرار ولا على المرة الواحدة بل على طلب الماهية من حيث هي هي إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة الواحدة من ضروريات الإتيان بالمأمور به فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه‏.‏

ثم أطال الكلام استدلالا للمذهب الأول ودفعا لحجج المذاهب الآخرة مما قد تقدم حاصل معناه وإذا عرفت جميع ما حررناه تبين أن القول الأول هو الحق الذي لا محيص عنه وأنه لم يأت أهل الأقوال المخالفة له بشيء يعتد به هذا إذا كان الأمر مجردا عن التعليق بعلة أو صفة أو شرط أما إذا كان معلقا بشيء من هذه فإن كان معلقا على علة فقد وقع الإجماع على وجوب اتباع العلة وإثبات الحكم بثبوتها فإذا تكررت تكرر وليس التكرار مستفادا هاهنا من الأمر وإن كان معلقا على شرط أو صفة فقد ذهب كثير ممن قال أن الأمر لا يفيد التكرار إلى أنه مع هذا التعليق يقتضي التكرار لا من حيث الصيغة بل من حيث التعليق لها على ذلك الشرط أو الصفة إن كان في الشرط أو الصفة ما يقتضي ذلك وإلا فلا تكرار كقول السيد لعبده‏:‏ اشتر اللحم إن دخلت السوق وقول الرجل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق وكذا لو قال أعط الرجل العالم درهما أو أعط الرجل الفقير درهما والحال أنه لا دلالة للصيغة على التكرار إلا بقرينة تفيد وتدل عليه فإن حصلت حصل التكرار وإلا فلا فلا يتم استدلال المستدلين على التكرار بصورة خاصة اقتضى الشرع أو اللغة أن الأمر فيها يفيد التكرار لأن ذلك خارج عن محل النزاع وليس النزاع إلا في مجرد دلالة الصيغة مع عدم القرينة فالتطويل في مثل هذا المقام بذكر الصور التي ذكرها أهل الأصول لا يأتي بفائدة‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ ‏[‏هل الأمر يقتضي الفور أم لا‏]‏

اختلف في الأمر هل يقتضي الفور أم لا‏؟‏

فالقائلون بأنه يقتضي التكرار يقولون بأنه يقتضي الفور لأنه يلزم القول بذلك مما لزمهم من استغراق الأوقات بالفعل المأمور على ما مر وأما من عداهم فيقولون المأمور به لا يخلو إما أن يكون مقيدا بوقت يفوت الأداء بفواته أو لا وعلى الثاني يكون لمجرد الطلب فيجوز التأخير على وجه لا يفوت المأمور به وهذا هو الصحيح عند الحنفية وعزي إلى الشافعي وأصحابه واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي قال ابن برهان لم ينقل عن أبي حنيفة والشافعي نص وإنما فروعهما تدل على ذلك‏.‏

قال في المحصول والحق أنه موضوع لطلب الفعل وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور وطلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فورا أو تراخيا انتهى وقيل أنه يقتضي الفور فيحب الإتيان به في أول أوقات الامكان للفعل المأمور به وعزى إلى المالكية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية‏.‏

وقال القاضي الأمر يوجب إما الفور أو العزم على الإتيان به في ثاني الحال وتوقف الجويني في أنه باعتبار اللغة للفور أو التراخي قال فيمتثل المأمور بكل من الفور والتراخي لعدم رجحان أحدهما على الاخر مع التوقف في إثمه بالتراخي لا بالفور لعدم احتمال وجوب التراخي وقيل بالوقف في الامتثال أي لا ندري هل يأثم إن بادر أو ان أخر لاحتمال وجوب التراخي استدل القائلون بالتكرار المستلزم لاقتضاء الفور بما تقدم في الفصل الذي قبل هذا وقد تقدم دفعه‏.‏

واحتج من قال بأنه في غير المقيد بوقت لمجرد الطلب بما تقدم أيضا من أن دلالته لا تزيد على مجرد الطلب بفور أو تراخي لا بحسب المادة ولا بحسب الصيغة لأن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان وخصوص المطلوب من المادة ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل فلزم أن تمام مدلول الصيغة طلب الفعل فقط وكونها دالة على الفور أو التراخي خارج عن مدلوله وإنما يفهم ذلك بالقرائن فلابد من جعلها حقيقة للقدر المشترك بين القسمين دفعا للاشتراك والمجاز والموضوع لافادة القدر المشترك بين القسمين لا يكون فيه إشعار بخصوصية أحدهما على التعيين لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ وغير لازمة فثبت أن اللفظ لا إشعار له بخصوص كونه فورا ولا بخصوص كونه تراخيا‏.‏

واحتجوا أيضا بأنه يحسن من السيد أن يقول لعبده افعل الفعل الفلاني في الحال أو غدا ولو كان كونه فورا داخلا في لفظ افعل لكان الأول تكرارا والثاني نقضا وأنه غير جائز واحتجوا أيضا بأن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا تفعل وبين قولنا افعل إلا أن الأول خبر والثاني إنشاء لكن قولنا تفعل لا إشعار له بشيء من الأوقات فإنه يكفي في صدقه الإتيان به في أي وقت كان فكذلك الأمر وإلا لكان بينهما فرق سوى كون أحدهما خبرا والثاني إنشاء‏.‏

واحتج القائلون بالفور بأن مخبر بكلام خبري كزيد قائم ومنشىء كبعت وطالق يقصد الحاضر عند الإطلاق عن القرائن حتى يكون موجودا للبيع والطلاق بما ذكر فكذا الأمر والجامع بينه وبين الخبر كون كل منهما من أقسام الكلام وبينه وبين سائر الإنشاآت التي يقصد بها الحاضر كون كل منها إنشاء وأجيب بأن ذلك قياس في اللغة لأنهم قاسوا الأمر في أفادته الفور على الخبر والانشاء للجامع المذكور وهو مع اتحاد الحكم غير جائز فكيف مع اختلافه فإنه في الخبر والانشاء تعين الزمان الحاضر للمظروفية ويمتنع ذلك في الأمر لأن الحاصل لا يطلب‏.‏

واحتجوا ثانيا بأن النهي يفيد الفور فكذا الأمر والجامع بينهما كونهما طلبا وأجيب بأنه قياس في اللغة وقد تقدم بطلانه وأيضا الفور في النهي ضروري لأن المطلوب الترك مستمرا على ما مر بخلاف الأمر وأيضا المطلوب بالنهي هو الامتثال لأنه يفيد الفور فالمراد أن الفور ضروري في الامتثال للنهي‏.‏

واحتجوا ثالثا بأن الأمر نهي عن الأضداد والنهي للفور فيلزم أن يكون الأمر للفور وأجيب بما تقدم من الدفع بمثل هذا في الفصل الذي قبل هذا‏.‏

واحتجوا رابعا بأن الله ذم إبليس على عدم الفور بقوله‏:‏ ‏{‏ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك‏}‏ حيث قال‏:‏ ‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا‏}‏ فدل على أن للفور وإلا لما استحق الذم لأنه لم يتضيق عليه وقته‏.‏

وأجيب عن هذا بأن ذلك حكاية حال فلعله كان مقرونا بما يدل على الفور ولا يخفى ما في هذا الجواب من الضعف فإنه لو كان مجرد التجويز مسوغا لدفع الأدلة لم يبق دليل إلا وقيل فيه مثل ذلك‏.‏

وأجيب أيضا بأن هذا الأمر لإبليس مقيد بوقت وهو وقت نفخ الروح في آدم بدليل قوله‏:‏ ‏{‏فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏}‏ فذم إبليس على تركه الامتثال للأمر في ذلك الوقت المعين واحتجوا خامسا بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وسارعوا إلى مغفرة من ربكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏‏.‏

وأجيب بأن هاتين الآيتين لو دلتا على وجوب الفور لما فيهما من الأمر بالمسارعة والاستباق لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور واحتجوا سادسا بأنه لو جاز التأخير لجاز إما ألى بدل أو غير بدل والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل‏.‏

أما فساد القسم الأول فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل من كل الوجوه فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه التكليف وبالانفاق ليس كذلك‏.‏

وأما فساد القسم الثاني فذلك يمنع من كونه واجبا لأنه يفهم من قولنا ليس بواجب إلا أنه يجوز تركه إلى غير بدل وأجيب باختيار الشق الأول ويقوم البدل مقام المبدل في ذلك الوقت لا في كل الأوقات فلا يلزم من الإتيان بالبدل سقوط الأمر بالمبدل ورد بأنه إذا كان مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهية مرة واحدة في أي وقت كان فهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى فقد حصل ما هو المقصود من الأمر بتمامه فوجب سقوط الأمر بالكلية وإنما يتم ما ذكروه من الجواب بتقدير اقتضاء الأمر للتكرار وهو باطل كما تقدم‏.‏

واحتجوا سابعا بأنه لو جاز التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معين أو إلى آخر أزمنة الامكان والأول منتف لأن الكلام في غير الموقت والثاني تكليف ما لا يطلق لكونه غير معين عند المكلف والتكليف بإيقاع الفعل في وقت مجهول تكليف بما لا يطاق وأجيب بالنقض الاجمالس والنقض التفصيلي أما الاجمالي فلجواز التصريح بالإطلاق بأن يقول الشارع إفعل ولك التأجير فإنه جائز إجماعا بإيجاب التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان أم جواز التأخير إلى وقت يعينه المكلف فلا يلزم منه تكليف ما لا يطاق لتمكنه من الامتثال في أي وقت أراد إيقاع الفعل فيه‏.‏

واحتج القاضي لما ذهب إليه أنه ثبت في خصال الكفارة بأنه لو أتى بإحداها أجزأ ولو أخل بها عصى وأن العزم يقوم مقام الفعل فلا يكون عاصيا إلا بتركهما وأجيب بأن الطاعة إنما هي بالفعل بخصوصه فهو مقتضى الأمر فوجوب العزم ليس مقتضاه‏.‏

واستدل الجويني على ما ذهب إليه من الوقف بأن الطلب متحقق والشك في جواز التأخير فوجب الفور ليخرج عن العهدة بيقين واعتراض عليه بأن هذا الاستدلال لا يلائم ما تقدم له من التوقف في كون الأمر للفور وأيضا وجوب المبادرة ينافي قوله المتقدم حيث قال أقطع بأن المكلف مهما أتى بالمأمور فهو موقع بحكم الصيغة للمطلوب واعتراض عليه أيضا بأن التأخير لا نسلم أنه مشكوك فيه بل التأخير جائز حقا لما تقدم من الأدلة فالحق قول من قال أنه لمطلق الطلب من غير تقييد بفور ولا تراخ ولا ينافي هذا اقتضاء بعض الأوامر للفور كقول القائل أسقني أطعمني فإنما ذلك من حيث أن مثل هذا الطلب يراد منه الفور فكان ذلك قرينة على إرادته به وليس النزاع في مثل هذا إنما النزاع في الأوامر المجردة عن الدلالة على خصوص الفور أو التراخي كما عرفت‏.‏

الفصل السادس‏:‏ في الأمر المعين

ذهب الجمهور من أهل الأصول ومن الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أمر به كان ذلك الأمر به نهيا عن الشيء المعين المضاد له سواء كان الضد واحدا كما إذا أمره بالإيمان فإنه يكون نهيا عن الكفر وإذا أمره بالحركة فإنه يكون نهيا عن السكون أو كان الضد متعددا كما إذا أمره بالقيام فإنه يكون نهيا عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك وقيل ليس نهيا عن الضد ولا يقتضيه عقلا واختاره الجويني والغزالي وابن الحاجب وقيل أنه نهي عن واحد من الأضداد غير معين وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية والمحدثين ومن هؤلاء القائلين بأنه نهي عن الضد من عمم فقال أنه نهي عن الضد في الأمر الإيجابي والأمر الندبي ففي الأول نهي تحريم وفي الثاني نهي كراهة‏.‏

ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي ومنهم أيضا من جعل النهي عن الشيء أمرا بضده كما جعل الأمر بالشيء نهيا عن ضده‏.‏

ومنهم من اقتصر على كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده وسكت عن النهي وهذا معزو إلى الأشعري ومتابعيه واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده والنهي عن الشيء ليس أمرا بضده وذلك لنفيهم الكلام النفسي ومع اتفاقهم على هذا النفي أن نفي كون كل واحد منهما عينا لإثبات ضده أو نفيه اختلفوا هل يوجب كل من الصيغتين حكما في الضد أم لا فأبو هاشم ومتابعوه قالوا لا يوجب شيء منهما حكما في الضد بل الضد مسكوت عنه وأبو الحسين وعبد الجبار قالا الأمر يوجب حرمة الضد وفي عبارة أخرى عنهم يدل عليها وفي عبارة ثالثة عنهم يقتضيها‏.‏

وقال الرازي والقاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي وصدر الإسلام وأتباعهم من المتأخرين الأمر يقتضي كراهة الضد ولو كان إيجابا والنهي يقتضي كون الضد سنة مؤكدة ولو كان النهي تحريما وقال جماعة منهم صدر الإسلام وشمس الأئمة وغيرهما أن النزاع إنما هو في أمر الفور لا التراخي وفي الضد الوجودي المستلزم للترك لا في الترك قالوا وليس النزاع في لفظ الأمر والنهي بأن يقال للفظ الأمر نهي وللفظ نهي وللفظ النهي أمر للقطع بأن الأمر موضوع بصيغة افعل والنهي موضوع بصيغة لا تفعل وليس النزاع أيضا في مفهومها للقطع بأنهما متغايران بل النزاع في أن طلب الفعل الذي هو الأمر عين طلب ترك ضده الذي هو النهي وطلب الترك الذي هو النهي عين طلب فعل ضده الذي هو الأمر وهكذا حرروا محل النزاع وفائدة الخلاف في كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط إذا قيل بأنه ليس نهيا عن ضده أو به وبفعل الضد إذا قيل بأنه نهى عن فعل الضد لأنه خالف أمرا ونهيا وعصى بهما‏.‏

وهكذا في النهي استدل القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده بأنه لو لم يكن الأمر بالشيء نهيا عن ضده لمكان إما مثله أو ضده أو خلافه واللازم باطل بأقسامه أما الملازمة فلأن كل متغايرين إما أن يتساويا في صفات النفس أو لا والمعنى بصفات النفس ما لا يحتاج الوصف به إلى تعقل أمر زائد عليه كالإنسانية للإنسان والحقيقة والوجود بخلاف الحدوث والتحيز فإن تساويا فيها فهما مثلان كسوادين أو بياضين وإلا فإما أن يتنافيا بأنفسهما أي يمتنع اجتماعهما في محل واحد بالنظر إلى ذاتيهما أولا فإن تنافيا بأنفسهما فضدان كالسواد والبياض وإلا فخلافان كالسواد والحلاوة وأما انتفاء اللازم بأقسامه فلأنهما لو كانا ضدين أو مثلين لم يجتمعا في محل واحد وهما يجتمعان إذ جواز الأمر بالشيء والنهي عن ضده معا ووقوعه ضروري ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كل واحد منهما مع ضد الآخر ومع خلافه لأن الخلافين حكمهما كذلك كما يجتمع السواد وهو خلاف الحلاوة مع الحموضة ومع الرائحة فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضد النهي عن ضده وهو الأمر بضده وذلك محال لأنه يكون الأمر حينئذ طلب ذلك الشيء في وقت طلب فيه عدمه وأجيب بمنع كون لازم كل خلافين ذلك أي جواز اجتماع كل مع ضد الآخر لجواز تلازمهما الضد للآخر وحينئذ فالنهي جواز الانفكاك في المتغايرين كالجوهر مع العرض والعلة مع المعلول فلا يجامع أحد الخلافين على تقدير تلازمهما الضد الآخر وحينئذ فالنهي إذا ادعى كون الأمر إياه إذا كان طلب ترك ضد المأمور به اخترنا كونهما خلافين ولا يجب اجتماع النهي اللازم من الأمر مع ضد طلب المأمور به كما زعموا كالأمر بالصلاة والنهي عن الأكل فإنهما خلافان ولا يلزم من كونهما خلافين اجتماع الصلاة المأمور بها مع إباحة الأكل الذي هو ضد النهي عن الأكل‏.‏

واستدلوا أيضا بأن فعل السكون عين ترك الحركة وطلب فعل السكون طلب لترك الحركة وطلب تركها هي النهي وأجيب بأن النزاع على هذا يرجع لفظيا في تسمية فعل المأمور به تركا لضده وفي تسميته طلبه نهيا فإن كان ذلك باعتبار اللغة فلم يثبت فيها ما يفيده ذلك ورد بمنع كون النزاع لفظيا بل هو في وحدة الطلب القائم بالنفس بأن يكون طلب الفعل عين طلب ترك ضده وأجيب ثانيا بحصول القطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد وإنما يتم ما ذكروه من كون فعل السكون عين ترك الحركة فيما كان إحدهما ترك الآخر لا في الأضداد الوجودية فطلب ترك أحدهما لا يكون طلبا للمأمور به لأنه يتحقق تركه في ضمن ضد آخر‏.‏

واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده ولا نقيضه بأنه لو كان الأمر بالشيء عين النهي عن الضد ومستلزما له لزم تعقل الضد والقطع حاصل بتحقق الأمر بالشيء مع عدم خطور الضد على البال‏.‏

واعترض بأن الذي لا يخطر بالبال من الأضداد إنما هو الأضداد الجزئية وليست مرادة للقائل بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده بل المراد الضد العام وهو ما لا يجامع المأمور به وتعقله لازم للأمر والنهي إذا طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه لانتفاء طلب الحاصل المعلوم حصوله والعلم بالعدم ملزوم للعلم بالضد الخاص والضد الخاص ملزوم للضد العام فلابد من تعقل الضد العام في الأمر بالشيء وكذلك لابد منه في النهي عن الشيء ولا يخفى ما في هذا الاعتراض من عدم التوارد فإن شرط التوارد الذي هو مدار الاعتراض كون مورد الإيجاب والسلب للمتخاصمين بحيث يكون قول كل منهما على طرف النقيض لقول الآخر والمستدل إنما نفى خطور الضد الخاص على الإطلاق فقول المعترض إن الذي لا يخطر هو الأضداد الجزئية موافقة معه فيها فلا تتحقق المناظرة بينهما باعتبار ذلك نعم يجاب عنه بأن مراد المعترض من ذلك بيان غلط المستدل من حيث أنه اشتبه عليه مراد القائل بأن الأمر بالشيء نهي عن الضد فزعم أن مراده الأضداد الجزئية وليس كذلك بل الضد العام ولا يصح نفي خطورة بالبال لما تقدم فحينئذ تنعقد المناظرة بينهما ويتحقق التوارد وأيضا هذا الاعتراض متناقض في نفسه فإن قول المعترض إن ما لا يخطر بالبال هو الأضداد الجزئية يناقض قوله إن العلم بعدم الفعل ملزوم العلم بالضد الخاص لأن الإيجاب الجزئي نقيض السلب الكلي عند اتحاد النسبة‏.‏

وأجيب بمنع توقف الأمر بالفعل على العمل بعدم التلبس بذلك الفعل في حال الأمر به لأن المطلوب مستقبل فلا حاجة للطالب إلى الالتفات إلى ما في الحال من وجود الفعل أو عدمه ولو سلم توقف الأمر بالفعل على العلم بعدم التلبس به فالكف عن الفعل المطلوب مشاهد محسوس فقد تحقق ما توقف عليه الأمر بالفعل من العلم بعدم التلبس به ولا يستلزم شهود الكف بالسكون عن الحركة اللازمة لمباشرة الفعل المأمور به ولو سلم لزوم تعقل الضد في الجملة فمجرد تعلقه ليس ملزوما لتعلق الطلب تركه الذي هو معنى النهي عن الضد لجواز الاكتفاء في الأمر بالشيء بمنع ترك الفعل المأمور به فترك المأمور به ضد له وقد تعقل حيث منع عنه لكنه فرق بين المنع عن الترك وبين طلب الكف عن الترك وتوضيحه أن الآمر بفعل غير مجوز تركه فقد يخطر بباله تركه من حيث إنه لا يجوزه ملحوظا بالتبع لا قصدا وبهذا الاعتبار يقال منع تركه ولا يقال طلب الكف عن تركه لأنه يحتاج إلى توجه قصدي‏.‏

واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده بأن أمر الإيجاب طلب فعل يذم بتركه فاستلزم النهي عن تركه وعما يحصل الترك به وهو الضد للمأمور به فاستلزم الأمر المذكور النهي عن ضده‏.‏

واعترض على هذا الدليل بأنه لو تم لزم تصور الكف عن الكف عن المأمور به لكل أمر إيجاب وتصور الكف عن الكف لازم لطلب الكف عن الكف واللازم باطل للقطع بطلب الفعل مع عدم خطور الكف عن الكف ولو سلم تصور الكف عن الكف منع كون الذم بالترك جزء الأمر الإيجابي أو لازم مفهومه لزوما عقليا واستلزام الأمر الإيجابي النهي عن تركه فرع كون الذم بالترك جزءا أو لازما وما قيل من أنه لو سلم أن الأمر بالشيء متضمن للنهي عن ضده لزم أن لا مباح إذ ترك المأمور به وضده يعم المباحات والمفروض أن الأمر يستلزم النهي عنها والمنهي منه لا يكون مباحا فغير لازم إذ المراد من الضد المنهي عنه الضد المفوت لأمر وليس كل ضد مفوتا ولا كل مقدر من المباحات ضدا مفوتا كخطوة في الصلاة وابتلاع ريقه وفتح عينه ونحو ذلك فإنها أمور مغايرة بالذات للصلاة وبهذا الاعتبار يطلق الضد للصلاة لكنها لا تفوت الصلاة‏.‏

وزاد القائلون بأن النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده كما أن الأمر بشيء يتضمن النهي عن ضده دليلا آخر فقالوا أن النهي طلب ترك فعل وتركه بفعل أحد أضداده فوجب أحد أضداده وهو الأمر لأن ما لا يحصل الواجب إلا به واجب ودفع بأنه يلزم كون كل من المعاصي المضادة واجبا كالزنا فإنه من حيث كونه تركا للواط لكونه ضدا له يكون واجبا ويكون اللواط من حيث كونه تركا للزنا واجبا‏.‏

ودفع أيضا بأنه يستلزم أن لا يوجد مباح لأن كل مباح ترك المحرم وضد له فإن قيل غاية ما يلزم وجوب أحد المباحات المضادة لا كلها فيقال أن وجوب أحد الأشياء لا على التعيين بحيث يحصل ما هو الواجب بأداء كل واحد منها ينافي الإباحة كما في خصال الكفارة‏.‏

ودفع أيضا بمنع وجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به ورد بأنه لو لم يجب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به لجاز تركه وذلك يستلزم جواز ترك المشروط في الواجب وجواز فعل المشروط في المحرم بدون شرطه الذي لا يتم إلا به‏.‏

واستدل المخصصون لأمر الإيجاب بأن استلزام الذم للترك للنفي إنما هو في أمر الوجوب واستدل القائل بأن الأمر يقتضي كراهة الضد ولو إيجابا والنهي يقتضي كون الضد سنة مؤكدة بمثل ما استدل به القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان واحد وإلا فعن الكل وإن النهي أمر بالضد المتحد وفي المتعدد بواحد غير معين ويجاب عنه بأن ذكر الكراهة في جاتب الأمر وذكر السنية في جانب النهي يوجب الاختلاف بينهم‏.‏

وإذا عرفت ما حررناه من الأدلة والردود بها فاعلم أن الأرجح في هذه المسألة أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده بالمعنى الأعم فإن اللازم بالمعنى الأعم هو أن يكون تصور الملزوم واللازم معا كافيا في الجزم باللزوم بخلاف اللازم بالمعنى الأخص فإن العلم بالملزوم هناك يستلزم العلم باللازم وهكذا النهي عن الشيء فإنه يستلزم الأمر بضده بالمعنى الأعم‏.‏

الفصل السابع‏:‏ ‏[‏هل الإتيان بالمأمور به على وجهه يوجب الإجزاء أم لا‏]‏

اعلم أن الإتيان بالمأمور به على وجهه الذي أمر به الشارع قد وقع الخلاف فيه بين أهل الأصول هل يوجب الأجزاء أم لا‏؟‏

وقد فسر الأجزاء بتفسيرين أحدهما حصول الإمتثال به والآخر سقوط القضاء به فعلى التفسير الأول أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي تحقق الإجزاء المفسر بالامتثال وذلك متفق عليه فإنه معنى الامتثال وحقيقته ذلك وإن فسر بسقوط القضاء فقد اختلف فيه جماعة من أهل الأصول أن الإتيان بالمأمور به على وجه يستلزم سقوط القضاء‏.‏

وقال القاضي عبد الجبار لا يستلزم استدل القائلون بالاستلزام بأنه لو لم يستلزم سقوط القضاء لم يعلم امتثال أبدا واللازم منتف فالملزوم مثله أما الملازمة فلأنه حينئذ يجوز أن يأتي بالمأمور به ولا يسقط عنه بل يجب عليه فعله مرة أخرى قضاء وكذلك القضاء إذا فعله لم يسقط كذلك وأما انتفاء اللازم فمعلوم قطعا واتفاقا ورأيا إن القضاء عبارة عن استدراك ما قد فات من مصلحة الأداء والفرض أنه قد جاء بالمأمور به على وجهه ولم يفت منه شيء وحصل المطلوب بتمامه فلو أتى به استدراكا لكان تحصيلا للحاصل قال في المحصول فعل المأمور به يقتضي الإجزاء خلافا لأبي هاشم وأتباعه لنا وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة وإنما قلنا إنه أتى بما أمر به لأن المسألة مرفوضة فيما إذا كان الأمر كذلك وإنما قلنا يلزم أن يخرج عن العهدة لأنه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي إما متناولا للمأتي أو لغيره والأول باطل لأن الحاصل لا يمكن تحصيله‏.‏

والثاني‏:‏ باطل لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولا لغيره ذلك الذي وقع مأتيا به ولو كان كذلك لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر وقد فرضناه كذلك هذا خلف والثاني أنه لا يخلو إما يجب عليه فعله ثانيا وثالثا أو يتفصى عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم والأول باطل لما بينا على أن الأمر يفيد التكرار والثاني هو المطلوب لأنه لا معنى للأجزاء إلا كونه كافيا في الخروج عن عهدة الأمر‏.‏

والثالث‏:‏ أنه لو لم يقتض الأجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده إفعل فإذا فعلت لا يجزىء عنك لو قال ذلك أحد لعد مناقضا احتج المخالف بوجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده فالأمر يجب أن لا يدل على الأجزاء بمجرده‏.‏

والثاني‏:‏ أن كثيرا من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها والمضي فيها ولا تجزئه عن المأمور به كالحجة الفاسدة والصوم الذي جامع فيه‏.‏

والثالث‏:‏ أن الأمر بالشيء لا يفيد إلا كونه مأمورا به فأما أن الإتيان به يكون سببا لسقوط التكليف فذاك لا يدل عليه بمجرد الأمر والجواب عن الأول أنا إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لكن الفرق بينه وبين الأمر أن نقول النهي يدل على منعه من فعله وذلك لا ينافي أن نقول إنك لو أتيت به لجعلته سببا لحكم آخر أما الأمر فلا دلالة فيه إلا على اقتضائه المأمور به مرة واحدة فإذا أتى به فقد أتى بتمام المقتضى فوجب أن لا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضيا لشيء وعن الثاني أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها وغير مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع المأمور به لا على حد الوجه الذي وقع به على وجه آخر وذلك الوجه لم يوجد وعن الثالث إن الإتيان بتمام المأمور به يوجب أن لا يبقى الأمر مقتضيا بعد ذلك وذلك هو المراد بالإجزاء‏.‏

الفصل الثامن‏:‏ ‏[‏هل القضاء بأمر جديد أم بالأمر الأول‏]‏

اختلفوا هل القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول‏؟‏ هذه المسألة لها صورتان‏:‏

الصورة الأولى‏:‏ الأمر المقيد كما إذا قال افعل في هذا الوقت فلم يفعل حتى مضى فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت فقيل لا يقتضي لوجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن قول القائل لغيره افعل هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول الأمر وإذا لم يتناوله لم يدل عليه بنفي ولا إثبات‏.‏

الثاني‏:‏ أن أوامر الشرع تارة لا تستلزم وجوب القضاء كما في صلاة الجمعة وتارة تستلزمه ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال فلا يلزم القضاء إلا بأمر جديد وهو الحق وإليه ذهب الجمهور وذهب جماعة من الحنابلة والحنفية والمعتزلة إلى أن وجوب القضاء يستلزمه بالأداء في الزمان المعين لأن الزمان غير داخل في الأمر بالفعل ورد بأنه داخل لكونه من ضروريات الفعل المعين وقته وإلا لزم أن يجوز التقديم على ذلك الوقت المعين واللازم باطل فالملزوم مثله‏.‏

الصورة الثانية‏:‏ الأمر المطلق وهو أن يقول افعل ولا يقيده بزمان معين فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعد أو يحتاج إلى دليل فمن لم يقل بالفور يقول إن ذلك الأمر المطلق يقتضي الفعل مطلقا فلا يخرج المكلف عن العهدة إلا بفعله ومن قال بالفور قال إنه يقتضي الفعل بعد أول أوقات الإمكان‏.‏

وبه قال أبو بكر الرازي ومن القائلين بالفور من يقول إنه لا يقتضيه بل لابد في ذلك من دليل زائد قال في المحصول ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره افعل هل معناه افعل في الزمان الثاني‏؟‏ فإن عصيت ففي الثالث فإن عصيت ففي الرابع ثم كذلك أبدا أو معناه في الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث والرابع فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الأول الفعل في سائر الأزمان وإن قلنا بالثاني لم يقتضه والحق أن الأمر المطلق يقتضي الفعل من غير تقييد بزمان فلا يخرج المكلف عن عهدته إلا بفعله وهو أداء وإن طال التراخي لأن تعيين بعض أجزاء الوقت له لا دليل عليه واقتضاؤه الفور لا يستلزم أنه بعد أول أوقات الإمكان قضاء بل غاية ما يستلزمه أن يكون المكلف آثما بالتأخير عنه إلى وقت آخر‏.‏

وقد استدل للقائلين بأن الأمر المقيد بوقت معين لا يقتضي إيقاع ذلك الفعل في وقت آخر بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لكان مقتضيا للقضاء واللازم باطل فالملزوم مثله أما الملازمة فبينة إذ الوجوب أخص من الاقتضاء وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم وأما انتفاء اللازم فلأنا قاطعون بأن قول القائل صم يوم الخميس لا يقتضي يوم الجمعة بوجه من وجوه الاقتضاء ولا يتناوله أصلا واستدل لهم أيضا بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لاقتضاه ولو اقتضاه لكان أداء فيكونان سواء فلا يأثم بالتأخير وأجيب عن بأن الأمر المقيد بوقت أمر بإيقاع الفعل في ذلك الوقت المعين فإذا فات قبل إيقاع الفعل فيه بقي الوجوب مع نقص فيه فكان إيقاعه فيما بعد قضاء ويرد هذا بمنع بقاء الوجوب بعد انقضاء الوقت المعين‏.‏

واستدل القائلون بأن القضاء بالأمر الأول بقولهم الوقت للمأمور به كالأجل للدين فكما أن الدين لا يسقط بترك تأديته في أجله المعين بل يجب القضاء فيما بعده فكذلك المأمور به إذا لم يفعل في وقته المعين ويجاب عن هذا بالفرق بينهما بالإجماع على عدم سقوط الدين إذا انقضى أجله ولم يقضه من هو عليه وبأن الدين يجوز تقديمه على أجله المعين بالإجماع واستدلوا محل النزاع فإنه لا يجوز تقديمه عليه بالإجماع‏.‏

واستدلوا أيضا بأنه لو وجب بأمر جديد لكان أداء لأنه أمر بفعله بعد ذلك الوقت المعين فكان كالأمر بفعله ابتداء ويجاب عنه بأنه لابد في الأمر بالفعل بعد انقضاء ذلك الوقت من قرينة تدل على أنه يفعل استدراكا لما فات أما مع عدم القرينة الدالة على ذلك فما قالوه يلزم ولا يضرنا ولا ينفعهم‏.‏

الفصل التاسع‏:‏ ‏[‏هل الأمر بالأمر الشيء أمر بذلك الشيء أم لا‏؟‏‏]‏

اختلفوا هل الأمر بالشيء أو بذلك الشيء أم لا‏؟‏ فذهب الجمهور إلى الثاني وذهب جماعة إلى الأول احتج الأولون بأنه لو كان الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء لكان قول القائل لسيد العبد مر عبدك ببيع ثوبي تعديا على صاحب العبد بالتصرف في عبده بغير إذنه ولكان قول صاحب الثوب بعد ذلك للعبد لا تبعه مناقضا لقوله للسيد مر عبدك ببيع ثوبي لورود الأمر والنهي على فعل واحد‏.‏

وقال السبكي إن لزوم التعدي ممنوع لأن التعدي هو أمر عبد الغير بغير أمر سيده فإن أمره للعبد متوقف على أمر سيده وليس بشيء لأن النزاع في أن قوله مر عبدك الخ هل هو أمر للعبد ببيع الثوب أم لا لا في أن السيد إذا أمر عبده بموجب مر عبدك هل يتحقق عند ذلك أمر للعبد من قبل القائل مر عبدك يجعل السيد سفيرا أو وكيلا وأما استدلالهم بما ذكروه من المناقضة فقد أجيب عنه بأنه المراد هنا منعه من البيع بعد طلبه منه وهو نسخ لطلبه منه‏.‏

واحتج الآخرون بأوامر الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمرنا فإنا مأمورون بتلك الأوامر وكذلك أمر الملك لوزيره بأن أمر فلانا بكذا فإن الملك هو الآمر بذلك المأمور لا الوزير وأجيب بأنه فهم ذلك في الصورتين من قرينة أن المأمور أولا هو رسول ومبلغ عن الله وأن الوزير هو مبلغ عن الملك لا من لفظ الأمر المتعلق بالمأمور الأول ومحل النزاع هو هذا أما لو قال قل لفلان افعل كذا فالأول آمر والثاني مبلغ بلا نزاع كذا نقل عن السبكي وابن الحاجب واختار السعد التسوية بينهما والأول أولى‏.‏

قال في المحصول فلو قال زيد لعمرو كل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك فالأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء في هذه الصورة ولكنه بالحقيقة إنما جاء من قوله كل ما أوجب عليك فلانا فهو واجب أما لو لم يقل ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع» فإن ذلك لا يقتضي الوجوب على الصبي انتهى‏.‏

وهذا الحديث ثابت في السنن ومما صلح مثالا لمحل النزاع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قوله صلى الله عليه وسلم لعمر وقد طلق ابنه عبد الله امرأته وهي حائض مرة فليراجعها وقيل إنه ليس بما يصلح مثالا لهذه المسألة لأنه قد صرح فيه بالأمر من الشارع بالمراجعة حيث قال فليراجعها بلام الأمر وإنما يكون مثالا لو قال مره بأن يراجعها والظاهر أنه من باب قل لفلان افعل كذا وقد تقدم الخلاف فيه‏.‏